كشف الأسبوعان الماضيان عن فجوة كبيرة- ومتزايدة الاتساع- فى الدول الكبرى بين الموقف الشعبى الداعم لأهل غزة، والموقف الرسمى المنحاز لإسرائيل انحيازًا تامًا لا يؤثر فيه أى ثمن يدفعه الفلسطينيون.
لنبدأ بالتصويت على قرار الأمم المتحدة الذى تم إقراره يوم الجمعة الماضى (٢٧ أكتوبر) بغالبية ١٢٠ دولة من أعضاء المنظمة. القرار متواضع ولم يكن فى كل الأحوال ليُحدث بذاته أثرًا فعليًا على الأرض. كل ما انتهى إليه هو «الدعوة لهدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تُفضى إلى وقف الأعمال العدائية وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين فى غزة».
القرار لم يدع لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ولا لوقف الاستيطان، ولا لحماية القدس.. مجرد وقف العدوان الهمجى على غزة وإدخال المواد الغدائية والأدوية اللازمة لإنقاذ أهلها. مع ذلك رفضته أربع عشرة دولة، وامتنع عن التصويت عليه أربعون دولة أخرى.
وقف بجانب إسرائيل فى رفض القرار ثلاث عشرة دولة، أبرزها الولايات المتحدة وكوريا والنمسا وكرواتيا والمجر. وأما الأربعون دولة التى امتنعت عن التصويت فعلى رأسها ألمانيا وبريطانيا وكندا والهند وأستراليا واليابان. (المفاجأة كانت وقوف تونس والعراق فى جانب الممتنعين، الأولى لأن القرار لا يحافظ على الحق الفلسطينى بما يكفى، والثانية لأنه يعترف ضمنًا بإسرائيل، وفى الحالتين أميل إلى اعتبارها غلطة دبلوماسية فادحة لا تعبر بالتأكيد عن إنكار حقيقى للحق الفلسطينى).
من جهة أخرى، فقد صوَّت لصالح القرار الدولى فرنسا وإسبانيا وسويسرا والصين وروسيا والبرازيل. ومع ذلك فإن تأييد القرار لم يغير من واقع وقوف البلدان الأوروبية الكبرى، والتى يقال عنها داعمة للعدالة وحقوق الإنسان، مع الجانب الإسرائيلى حتى مع استمرار القصف الوحشى لغزة واتساع الاجتياح البرى وتجاوز عدد الشهداء ثمانية آلاف.
ازدواجية المعايير الدولية ليست ظاهرة جديدة، خاصة حينما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطينى وما يتعرض له من عدوان وحصار إسرائيليين منذ عقود. ولكن الجديد هذه المرة هو رد الفعل الشعبى، سواء من أساتذة جامعيين أو متظاهرين من الشباب أم من الرأى العام الواسع الذى يتابع وقائع العدوان على غزة يوميًا ولا يكاد يصدق وقوع مثل هذه المذبحة فى العصر الحديث.
الدافع لهذا التغير الكبير فى المقام الأول والأخير هو وحشية الانتقام الإسرائيلى، والثمن الفادح الذى دفعه ويدفعه أهل غزة، خاصة من الأطفال. وما كان يمكن تجاهله أو إخفاؤه فى الماضى من أخبار العدوان وعدد ضحاياه صار متاحًا أمام الجميع فى الإعلام التقليدى المستقل ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعى. كذلك فإن ظهور وجوه فلسطينية وعربية قادرة على نقل وجهة النظر العربية إعلاميًا بذكاء ووعى وبلغة حديثة يفهمها العالم كان له أثر كبير.
ومعهم جمعيات حقوقية دولية مستقلة، ومعلقون وكتاب، ونجوم الرياضة والفن الذين يتابعهم الملايين. وفوق هذا أظن أن هناك وعيًا تدريجيًا ومتزايدًا بين الأجيال الشابة فى كل أنحاء العالم بعدالة القضية الفلسطينية وعدم الانصياع لوجهة النظر الإسرائيلية دون تدقيق أو تفكير.
فكرت فى سبب استمرار حكومات هذه الدول الكبرى فى دعم العدوان الإسرائيلى حتى بعدما تحول إلى عملية إبادة جماعية، وهى حكومات عادة ما تتابع وتستجيب لاتجاهات الناخبين وتحرص على كسب أصواتهم. واستعنت فى ذلك ببعض من أعرفهم فى مصر وخارجها. والتفسير الذى انتهيت إليه هو اليقين الراسخ فى الأوساط السياسية الدولية بأنه مهما كانت فظاعة ما ترتكبه إسرائيل فإنها ستظل حليفًا أكثر استقرارًا على المدى الطويل.
وأكثر تأثيرًا فى أى انتخابات مقبلة فى هذه الدول، بينما ردود الفعل الداعمة للجانب الفلسطينى لن تعدو أن تكون انفعالًا وقتيًا بوضع إنسانى قاسٍ، ومتابعة مؤقتة ستنحسر متى انحسرت التغطية الإعلامية لغزة أمام أحداث قادمة. أما الأصوات العربية فى الخارج فليست مؤثرة فى انتخابات قادمة لأنها بطبيعتها منقسمة وغير منظمة ولا تستند لمؤسسات مستقرة.
العدوان الإسرائيلى على غزة يتصاعد، والشهداء يسقطون كل يوم بالعشرات والمئات، ووقف المذبحة هو الأولوية. وهذا يحتاج لاستمرار الدعم الشعبى العالمى للحق الفلسطينى. لهذا فإن لم يكن بيدنا- نحن الجمهور العربى- ما نؤثر به على ما يجرى على الأرض، فبيدنا على الأقل العمل على بقاء القضية حية، والاهتمام الدولى مستمرًا، والفهم الصحيح لحقوق الشعب الفلسطينى منتشرًا إعلاميًا وشعبيًا.