بقلم - زياد بهاء الدين
دُعيت أمس الأول من جانب جمعية «كيميت بطرس غالى»، التى أسسها ويرأسها رجل الأعمال السيد ممدوح عباس لحضور محاضرة مهمة ألقاها «جون إيف لودريون»، الوزير الفرنسى السابق للدفاع ثم الخارجية لمدة عشر سنوات كاملة، من ٢٠١٢ إلى ٢٠٢٢.
أهمية المحاضرة لم تكن فى أنها جاءت بجديد. فالرجل لم يقل ما لم يكن الحاضرون يعرفونه. بل كانت فيما عبر عنه- وبصراحة شديدة- عما يمكن توقعه من الجانب الفرنسى حيال المأساة الواقعة على أرض غزة. وقد تميزت فرنسا عبر عقود طويلة بمواقف أكثر اعتدالًا نسبيًا من القضية الفلسطينية مقارنة بغيرها من الدول الأوروبية الكبرى. ومع ذلك فأظن أن ما قاله يعبر عن الموقف الأوروبى عمومًا من الوضع الراهن، ربما مع استبعاد البلدان التى أخذت مواقف أكثر إنصافًا، وعلى رأسها إسبانيا وأيرلندا.
السيد «لودريون» قال إن على إسرائيل وقف إطلاق النار فورًا، وعليها السماح بتدفق المساعدات الإنسانية، وعليها قبول حل الدولتين، والبدء فى تنفيذه بحسن نية، وندد بسقوط الضحايا العزل، وطالب باتخاذ موقف دولى دبلوماسى أكثر حسمًا، وذكَّرنا بأن فرنسا لم تتخلَّ عن التزاماتها بدعم المنظمات الدولية العاملة فى غزة. وهذا كله كلام لا بأس به ومحل ترحيب.
ولكن الواقع أن ما طرحه لن يكفى لوضع نهاية للعدوان الإسرائيلى، ولا للبدء فى وضع أسس مستقبل فلسطينى عادل ومستدام. فلا ذِكر لما مارسته إسرائيل من سياسات عنصرية واستعمارية فى الضفة الغربية وغزة طوال العقود الماضية، بل الحرب الحالية تبدأ بهجوم حماس يوم ٧ أكتوبر ولا شىء قبل ذلك، ولا تذكر أن وضع غزة كان وضعًا مستحيل الاستمرار، وأن العالم «المتحضر» سكت عشرات السنين على بقاء أهل غزة محبوسين فى سجن لا إنسانى، ولا استعداد لقبول لأى ضغوط فعلية على إسرائيل لدفعها لوقف العدوان ثم الانسحاب، ولا اعتراف بأن هناك منذ البداية طرفًا معتديًا وآخر معتدى عليه، لا طرفين متكافئين يمكن معاملتهما على قدم المساواة. ورغم أسئلة الحاضرين من الدبلوماسيين والأكاديميين والصحفيين المتحفظة على مضمون المحاضرة، والمنادية بالمزيد من الضغط الفرنسى على إسرائيل، إلا أن المحاضر السياسى المخضرم لم يهتز أو يبدى ترددًا أو تغيرًا فى موقفه، بل انتقد بدوره من لم ينصتوا جيدًا لما قاله بوضوح!.
لهذا تحديدًا وجدت المحاضرة مهمة وقيمة، لأنها بينت لنا- وبصراحة ووضوح شديدين- المساحة التى من الممكن لغالبية الدول الأوروبية أن تتحرك فيها لوقف العدوان على غزة وأهلها، ولوضع نهاية لنزيف الضحايا وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، كما عرفتنا من جهة أخرى على الخطوط الحمراء التى لن تتجاوزها مهما بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين، ومهما زادت الضغوط الطلابية والشبابية فى العواصم الأوروبية، ومهما ارتفعت حدة البيانات والمواقف العربية الرسمية. وهذه رسالة علينا الإنصات إليها بعناية وفهمها والتعامل معها بواقعية.
كلمة الوزير السابق تضمنت رسائل أخرى مهمة، على رأسها أهمية الدور المصرى للتوصل إلى اتفاق لوقف العدوان الإسرائيلى مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، واستمرار اعتبار إيران المصدر الرئيسى للعنف والإرهاب فى المنطقة، وأخيرًا انتقاد مستتر للموقف الأمريكى السابق بتصور إمكان تسوية القضية الفلسطينية من خلال تطبيق برنامج تعمير وتنمية اقتصادية يتجاهل الواقع السياسى والاجتماعى. ولم يفته طبعًا أن يمر مرور الكرام على «الملفات» الأخرى الساخنة فى المنطقة: لبنان، وليبيا، والسودان، وسد النهضة، والملاحة فى البحر الأحمر.
الرسالة- بالنسبة لى على الأقل- كانت التالية: مع أن العدوان الإسرائيلى تجاوز أسوأ الكوابيس فى وحشيته، ومع أن الرأى العام العالمى تغير موقفه من القضية الفلسطينية، ومع أن الولايات المتحدة تحاول ان تبدو «ضاغطة» على إسرائيل، إلا أن هناك خطوطًا حمراء لن يمكن لعواصم الغرب أن تتجاوزها، وهى خطوط تحددت عبر عشرات السنين وارتبطت بالثقافة السياسية السائدة والمستقرة داخل وجدان غالبية الناس، وفى المؤسسات العميقة.
■ ■ ■
المحاضرة كانت فرصة لفهم الحالة السياسية الأوروبية السائدة، وللخروج من دائرة الحوار المحلى المغلق الذى ندور فيه. أما الآن فالأولوية لوقف العدوان الإسرائيلى ولنصرة أهل غزة، ولتجنب مذبحة كبرى فى رفح، ثم لإدخال المساعدات الإنسانية لعل هذا الكابوس ينتهى ويجد أهلنا فى غزة أملًا فى حياة طبيعية حُرموا منها لعقود طويلة