مع صعوبة الوضع الاقتصادى الراهن وتداعياته على الغالبية العظمى من الناس، إلا أن كل ظرف مماثل لا يخلو من جانبين، المستفيدون منه والمتضررون. هكذا الحياة.. وهكذا الاقتصاد.
المتضررون هم الغالبية الواسعة ممن شهدوا خلال العامين الماضيين تراجعا كبيرا فى القوة الشرائية لدخولهم، حتى بعد الزيادات المتوالية فى الأجور، بسبب الغلاء الجامح الذى اقتحم كل البيوت والطبقات الاجتماعية، ودفع لتغيير أنماط الاستهلاك خاصة فى محيط الطبقات الوسطى.
على الجانب الآخر، فإن هناك من استفادوا من الوضع الاقتصادى الراهن، وإن كانت التفرقة واجبة بين الاستفادة المشروعة من الظروف الاستثنائية وبين المكاسب التى تحققت بسبب مخالفة القانون.
فقد استفاد مثلا فى السنوات الماضية من تاجر فى العملة فى السوق السوداء حيث الأرباح خيالية، وكذلك استفاد من نجحوا فى اقتطاع أنصبة غير مستحقة من المواد المدعومة وإعادة بيعها بأسعار استغلالية. هذه الأنشطة، مهما تزينت بأسماء براقة، فإنها فى نهاية الأمر جرائم يعاقب عليها القانون.
ولكن فى المقابل، فقد استفاد كثيرون ممن نجحوا، سواء بعمل دؤوب، أو استشراف لطبيعة الأسواق، أو بحسن الحظ، فى تحويل المصاعب إلى فرص. على رأس هؤلاء بلا شك من كان لهم من الأصل نشاط تصديرى أو تمكنوا من تحويل إنتاجهم المحلى إلى الخارج. واستفاد أكثر من كان أقل احتياجًا للاستيراد أو تدبير عملة أجنبية لشراء معدات أو مواد خام. كذلك استفادت - خاصة فى السنوات السابقة على الأزمة- شركات المقاولات والأنشطة المرتبطة بالبناء والتشييد وصناعة مستلزماته التى تفاعلت بسرعة مع تغير الظروف وخاطرت بالتوسع والإنفاق على المعدات والكفاءات. واستفاد أيضا، ربما دون مجهود اضافى، من شاء حظه أن يكون دخوله بالعملة الأجنبية لأى سبب، كما استفاد المصريون العاملون فى الخارج ممن زادت القوة الشرائية لتحويلاتهم النقدية.
هناك إذن مستفيدون، كما أن هناك خاسرين. فما المشكلة؟ ليست مشكلة واحدة، بل ثلاث.
الأولى أن المستفيدين أقل بكثير من المتضررين. الشركات المصدرة بنجاح ودون عوائق فى استيراد مستلزماتها محدودة العدد ولا تقارن بالشركات التى تواجه ظروفًا صعبة بسبب ارتفاع تكلفة كل مستلزمات الإنتاج ومعها الرسوم والضرائب ومعها الأجور. ومن يتقاضون دخولا اجنبية من الأفراد هم أعضاء نخبة محدودة العدد. والشركات التى استفادت من عوائد المقاولات والتشييد والبناء دخلت مؤخرا مرحلة أكثر صعوبة بدأت تتآكل فيها أرباحها السابقة. أما المصريون فى الخارج فليسوا غالبية الشعب.
المشكلة الثانية أن طبيعة اقتصادنا وضعف آلياته «التوزيعية» لا تمكن من الاستفادة الأوسع من «ثمار النجاح» التى يحققها المستفيدون خاصة مع غياب الحافز الكافى لإعادة الاستثمار داخل الاقتصاد الوطنى وفى أنشطة إنتاجية. بل الأرجح أن تتجه تلك الأرباح إما لمزيد من الادخار العقارى أو إلى خارج مصر. وهذا كله يحد من فرصة إعادة تدوير المكاسب المحققة لخلق مزيد من فرص العمل لمن هم بأمس الحاجة إليها.
أما المشكلة الثالثة فتتعلق بسوق الصرف واستمرار وجود فجوة كبيرة بين الأسعار الرسمية والسوداء، بما يحد من رجوع حصة لا يستهان بها من حصيلة التصدير ومن مدخرات المصريين فى الخارج.
هذه العوامل الثلاثة تعنى أن ما يستفيد به جزء من الشعب المصرى لا يتحول إلى مكسب قومى ينتشر ويحفز ويساعد الغالبية العظمى من المتضررين.
والعمل؟
يظل الإصلاح الشامل والعميق الذى يعيد للاقتصاد توازنه ويطلق طاقات الإنتاج والاستثمار والتصدير هو المسار الذى يجب أن نسلكه إن عاجلا أم آجلا، والعاجل بالتأكيد أفضل.
ولكن إلى أن يتحقق ذلك فإن الحد الأدنى الواجب عمله هو تعظيم الاستفادة من الفرص التى أتاحتها الأزمة الاقتصادية الراهنة، وعلى رأسها تشجيع التصدير بكل قوة، ثم تشجيع من لديهم موارد بالعملة الأجنبية على رد حصيلتهم لمصر، ثم تشجيع من تتحقق لهم فوائض وأرباح على إعادة استثمارها فى أنشطة إنتاجية داخل البلد.
وأؤكد أن المطلوب هو التشجيع لا الترهيب، ونشر الثقة لا الخوف، وزيادة التسهيلات لا الضرائب، لأن الترهيب لن يأتى بنتيجة إلا المزيد من الخوف الذى يدفع لخروج الأموال والإحجام عن الاستثمار وضيق دائرة من يستفيدون من الفرص التى تتيحها الأزمة الراهنة.