لا أحب أن أكون كمَن يفسد الفرح أو ينظر لنصف الكوب الفارغ. أقصد بذلك الوضع الاقتصادى بعد ثلاثية صفقة رأس الحكمة، وتحرير سعر الصرف، وإبرام اتفاق صندوق النقد، بل كنت أود أن أكون مشاركًا في حالة التفاؤل الرسمية والإعلامية ومقتنعًا بها لأننا جميعًا بحاجة إلى هذه الجرعة الإيجابية. ولكن الأمانة والمصلحة الوطنية تقتضيان أن نكون واقعيين حتى يعلم الناس حقيقة موقفنا وما يواجهنا من تحديات للخروج من أزمة لا تزال ممتدة معنا.
الإجراءات الثلاثة المذكورة وفرت للدولة موارد من النقد الأجنبى كانت مطلوبة بشكل مُلِحٍّ لتجنب وضع كان بالفعل خطيرًا. وعلى المدى القصير فإن هذه الأموال «المُنقذة» مكّنت مصر من تحقيق أربعة مكاسب مباشرة: توقى خطر التعثر في سداد الدَّيْن الخارجى، وضبط سوق الصرف، وتشجيع تدفق الاستثمار ومدخرات العاملين في الخارج عبر النظام المصرفى، وتحسين تصنيفنا الائتمانى. وكلها مكاسب كبيرة، ولا يصح التقليل من شأنها.
ولكن دعونا لا ننطلق في الاعتقاد بأن الأزمة زالت، وأن مشاكلنا قد حُلت. الذي جرى- ببساطة شديدة- أننا كنا على حرف الهاوية، ولم يبعدنا عن السقوط فيها إلا صفقة رأس الحكمة، واللجوء إلى واحدة من أكبر حزم الاقتراض التي عرفتها مصر مؤخرا. وإن كنت شخصيًّا قد رحبت بالإجراءات الثلاثة، فهذا لأننى كنت-
ومازلت- أعتبر أنه لم يكن هناك مفر من اللجوء إليها، وإلا كان السقوط في الهاوية أكيدًا.
ولكن إذا كنا نجحنا في تجنب كارثة محققة بتدبير التمويل في اللحظة الأخيرة، فإن هذا لا يعنى الخروج من الأزمة، بل علينا انتهاز الفرصة واتخاذ الإجراءات وتطبيق السياسات اللازمة لتجنب العودة إلى ذات الوضع مرة أخرى ولبدء الإصلاح الاقتصادى الحقيقى والمستدام.
ولكن يُقلقنى أن ما شاهدته وسمعته خلال الأسابيع القليلة الماضية لا ينم عن تغيير حقيقى في المسار، بل أراه، معبرًا بشكل ضمنى عن استمرار ذات المنطق القديم.
التمسك بأن السياسات السابقة كانت سليمة، ولم يعرقلها سوى العوامل الخارجية، والإعلان عن مراحل جديدة من المشروعات والنظر إلى بيع الأصول باعتباره مصدرًا دائمًا للتمويل، والترحيب بعودة الأموال الساخنة مصدرًا للعملة الأجنبية، (بعدما كانت منذ عامين سبب المشكلة)، وعدم اعتبار الزيادات الجديدة في الدَّيْن الخارجى مصدر قلق، وغياب الحوكمة في بعض قرارات توزيع الموارد، كل هذه علامات وإشارات مقلقة ينبغى التوقف عندها.
■ ■ ■
يستخدم الاقتصاديون تفرقة مهمة بين القطاع المالى وبين القطاع الحقيقى، وهى تفرقة مفيدة في فهم وضعنا الراهن.
الذي جرى حتى الآن هو عملية إنقاذ مالى، بدونها كان الوضع سيكون بالغ الحرج، ويكاد يدفع مصر إلى التعثر في التزاماتها الدولية. وهذا مجال عمل وزارة المالية والبنك المركزى والجهات الأخرى المسؤولة عن القطاع المالى، وقد أدت دورها. ولكن هناك حدود لما يمكن تحقيقه بالتدخل المالى، الذي قد ينجح في كسب الوقت، وفى إرجاء المشكلة، وفى توزيع الأعباء المالية على فترة أطول، ولكنه لا يواجه الأسباب الأصلية ولا يعالجها.
تغيير الواقع وإحداث نقلة حقيقية في الاقتصاد، وتجنب الوقوع في ذات «الورطة» بعد فترة وجيزة، بحاجة إلى نقلة نوعية في إدارتنا للاقتصاد الحقيقى، اقتصاد الإنتاج السلعى والخدمى، اقتصاد الصناعة والزراعة والسياحة، (وهذا قطاع، والحمد لله، منتعش)، والخدمات.. ونعم حتى التشييد والبناء.. هذه هي مصادر الثروة والدخل والتشغيل والتصدير والتنمية. وبدون الانتباه إليها فلن تنجح الإدارة المالية إلا في تجنب السقوط في الهاوية مرة بعد الأخرى حتى لا يعود هناك مجال باقٍ للمناورة والتصرف.
الذي ننتظره وينتظره المراقبون في الداخل والخارج ليس مزيدًا من الصفقات ولا مزيدًا من القروض، فهذه حلول مالية كانت مطلوبة وضرورية، وتم اتخاذها برغم تكلفتها الاجتماعية. الذي ننتظره هو الانتقال إلى برامج كفيلة بتنشيط الاقتصاد الحقيقى لكى يكون هناك أمل في عدم تكرار ذات السياسات والوقوع في ذات الأخطاء.
لا تدعوا الفرصة التي أُتيحت لنا تتحول إلى مصدر للتقاعس عن الإصلاح، والتشبث بسياسات ثبت قصورها، بل دعونا ننتهز هذه الفرصة لكى نُعدل المسار ونُطلق طاقات الإنتاج المُعطَّلة