بقلم - زياد بهاء الدين
مع انقضاء العام الماضى وبداية عام جديد، ومع نهاية الانتخابات الرئاسية، ارتفعت التوقعات والتكهنات حول ما قد تشهده الساحة الاقتصادية من قرارات وتغييرات، سواء فى التوجهات أو الأشخاص، أو فى الاثنين معا.. ولكن إن كان لدى الدولة النية للإقدام على مثل هذا التغيير، فلا يكفى أن يتناول بعض الإصلاحات الإجرائية ولا الحديث عن توجهات عامة ولا حتى تغيير بعض الوجوه، بل يجب أن يكون أكثر عمقًا وتأثيرًا مما سبق لكى يشيع الثقة بأننا على الأقل أعدنا توجيه دفة السفينة الاقتصادية نحو الوجهة الصحيحة، حتى ولو استغرق وصولها إلى بر الأمان فترة طويلة.
والحقيقة أن التغييرات الاقتصادية الرئيسية المطلوبة باتت معروفة للجميع ومتفقا عليها بين الخبراء من كل التوجهات، وليس فيها جديد لم يجرِ تناوله تفصيليًا فى مقالات ودراسات وتقارير محلية ودولية خلال العامين الماضيين.
عناوينها الرئيسية هى تصحيح الخلل فى سوق الصرف، وتحديد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى والحد من مزاحمتها للمستثمرين، وإطلاق طاقات القطاع الخاص فى الاستثمار والتشغيل والتصدير، وإضفاء المزيد من الشفافية على برنامج التخارج من الأصول، ومحاربة الغلاء عن طريق تشجيع الإنتاج والتنافس لا القرارات الإدارية، واستخدام السياسة الضريبية لتشجيع التنمية، لا لمجرد زيادة الحصيلة.
كل هذه التوجهات الاقتصادية - وغيرها - جرى الحديث عنها بما يكفى، ولم يعد هناك ما يقال فيها أكثر مما قيل بالفعل. القضية إذن ليست فى التوصل لحلول اقتصادية جديدة أو سياسات مبتكرة، بل فى تنفيذ برنامج الإصلاح الوطنى المعروف للجميع.
فدعونا إذن نبدأ العام الجديد بالانتقال من الحديث عن السياسات الاقتصادية الرشيدة إلى التفكير فيما يعرقل تنفيذها. وأقترح من جانبى فتح هذا الحوار بتقديم ثلاثة مقترحات:
الأول: أن العمل على تحديد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى يجب أن ينطلق من إدراك وقبول أن هناك أوضاعا قائمة بالفعل تكوّنت، ومؤسسات اقتصادية بُنيت وكبرت وصار لها وجود فى دائرة الإنتاج والتسويق، وهذا واقع لا يمكن إلغاؤه أو تجاهله.. لهذا فإن ما نحتاجه من أجل تطوير العلاقة الاقتصادية الصحية بين الدولة والقطاع الخاص ليس الاقتراحات غير ممكنة التحقيق بتخارج الدولة من النشاط تماما كما لو أن هذا أمر يمكن تحقيقه بقرار إدارى، بل نحتاج إلى مدخل تفاوضى هادئ وتدريجى يسعى لتطوير وتحسين الأوضاع القائمة والبناء على الموجود وعلى طمأنة كافة الأطراف بأن هناك مسارا تتوافق فيه المصالح، وإطارا سليما للشراكة بين الدولة والقطاع الخاص سلكته دول أخرى من قبلنا، ولا يوجد ما يمكن من أن نتعلم منه ونسلكه بدورنا.
المقترح الثانى: أن نقتنع جميعا بأن المكاسب التى يمكن أن تحققها الموازنة العامة من نجاح القطاع الخاص على المدى الطويل وانطلاق التنمية والاستثمار والتشغيل والتصدير، بالضرورة تفوق بكثير العوائد قصيرة الأجل الناجمة عن زيادات الرسوم والضرائب والغرامات والمخالفات.. وهذا يحتاج للقناعة بأن الدولة يجب أن تكون شريكة القطاع الخاص فى النجاح لا مجرد رقيب ومحصل للرسوم، سواء نجح المشروع التجارى أم تعثر.
وأخيرًا، فإن المقترح الثالث يتعلق بمن تستشيرهم الدولة وتنصت إليهم فى تحديد المشاكل وإيجاد سبل لحلها. لا يعرف مكمن المشكلة وطريقة حلها إلا أصحاب الصنعة أنفسهم، لا موظفو الحكومة ولا الخبراء ولا المسؤولون الحكوميون. إن اردنا أن نضع أيدينا على المعوقات الحقيقية للاستثمار فى السياحة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة والتكنولوجيا، فلابد من الإنصات أولًا للعاملين فى هذه المجالات، ليس فقط مع بعض المشهورين منهم وإنما مع قطاع أوسع، من خلال الاتحادات والغرف والجمعيات التى تمثلهم.
هل يحتاج ما سبق تغيير الوجوه أيضا؟ ربما.. ولكن ليست هذه هى القضية، ولا الأولوية، بل يلزم تغيير المسار وإطلاق رسالة قوية للناس وللعالم بأنه تغيير حقيقى ومستدام، ثم تأتى بعد ذلك مسألة البحث عمن يكون مؤهلا لتنفيذه.
الناس تنتظر هذه الرسالة الاقتصادية والتعبير عن توجّه يناسب التحديات الراهنة.. فلعلها تكون قادمة كى يبدأ عامنا الجديد بداية مشجعة.