بقلم - زياد بهاء الدين
لا أظن أن هناك ما يشغل الناس أكثر من الغلاء.. لا السياسة، ولا الحوارات، ولا حتى مباريات كرة القدم وأخبار الفنانين.
الغلاء سيد الموقف، والناس تلهث وراء الأسعار المرتفعة بشكل متواصل، فى متابعة حثيثة لآخر مستجدات مختلف أنواع الغذاء والخدمات والفواتير المنزلية، متنقلة كل بضعة أيام بين هذه السلعة وتلك، وبين المقارنات للمعروض فى الأحياء السكنية والمناطق المختلفة، كأنها مباراة ساخنة ومحمومة لا يكاد المواطن يقدر على متابعتها.
التضخم الرسمى مرتفع للغاية، وقد بلغ فى شهر يونيو الماضى - وفقًا لبيانات البنك المركزى - أحد أعلى المعدلات التى بلغتها مصر فى العقود الماضية.. ولكن تجارب المواطنين ومعاناتهم اليومية تتجاوز ذلك بكثير، والخوف مما سيأتى به العام الدراسى المقبل من زيادات فى أسعار المدارس والدروس ومستلزماتها يقلق كل بيت.
الخطاب الحكومى المعروف أن الاقتصاد كان على مسار سليم، إلى أن طرأت أزمتا «كورونا» و«أوكرانيا»، فتعقد الوضع، واضطرب الاقتصاد العالمى، وزادت الأسعار فى كل أنحاء العالم، ونحن جزء منه.. وهذا التفسير - كما كتبت وكتب آخرون من قبل - محل خلاف.. ولكن دعونا اليوم نرجئ هذا النقاش ونفكر فى الغلاء الحالى وما يمكن عمله حياله.
أكيد أن الحل الحقيقى والحاسم هو الإصلاح الهيكلى للاقتصاد وإعادته لمسار الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير.. ولكنه حل طويل المدى، حتى لو بدأنا تنفيذه اليوم. فهل هناك ما يمكن عمله لمواجهة انفلات الأسعار فى المدى القصير؟.
لنتفق أولًا على أن جانبًا لا يستهان به من الغلاء الحالى والانفلات المبالغ فيه لأسعار العديد من السلع والخدمات ليس مما يمكن تفسيره أو تبريره اقتصاديا، لا بتراجع الإنتاج، ولا بانخفاض قيمة الجنيه المصرى، ولا بالقيود على الاستيراد. هناك زيادة مفرطة نابعة بالتأكيد من خلل بالغ فى السوق المحلية، وهناك أرباح هائلة يحققها كل مَن لديه القدرة على تخزين السلع وتقييد توافرها والتلاعب فى أسعارها.. ولكن إلقاء اللوم على جشع التجار ليس الحل، لأن فساد الأخلاق وقلة الضمائر مما يلزم توقعه والتعامل معه والتدخل لمواجهته ومنع وقوعه.
نعود إذن إلى الدولة وما يلزم عليها أن تقوم به لكى تمنع «جشع التجار» من السيطرة على مصائر الناس إلى هذا الحد. وهنا نجد أن الخطاب الشعبى والبرلمانى يعود بنا إلى مطالب وحلول لا تنتمى للعصر: الضرب بيد من حديد.. إحكام الرقابة على الأسواق.. تغليظ العقوبات.. فرض أسعار جبرية.. كلام للأسف نظرى ولن يكون له أثر على أرض الواقع، لأن الواقع نفسه اختلف عن العصر الذى كان يمكن فيه للدولة الاعتماد على هذه الأدوات التقليدية.
أدوات العصر هى كسر الاحتكارات والقيود القائمة التى تتيح لبعض المنتجين والتجار وأصحاب المخازن التحكم والتلاعب فى الأسعار. واقع اليوم أن المنافسة محدودة وغير قادرة على زعزعة سيطرة التجار على الأسواق، لأن دخول لاعبين جدد إلى الساحة - بما يهز العروش القائمة - مكبل بقيود كثيرة ومعقدة ومكلفة ومعطلة.
تخيلوا ما يمر به الراغب فى فتح محل جديد أو منفذ متواضع فى المدينة لكى «يستورد» فيه منتجات القرى المجاورة مباشرة دون أن يمر على سلسلة الوسطاء المعروفة والمستقرة. تخيلوا الوقت والتكلفة والإجراءات التى يتطلبها الحصول على ترخيص بذلك، والمعارك الضارية التى سوف يلزم عليه أن يخوضها ضد البيروقراطية والروتين والقواعد الجامدة قبل أن يبدأ المعارك التالية مع المنافسين.
التضخم حقيقى وموجع، والأرجح مستمر، إلى أن تتخذ الدولة السياسات والإجراءات اللازمة لتصحيح المسار الاقتصادى، ثم تأتى هذه الإصلاحات بمفعولها بما يعالج الخلل من جذوره.. ولكن إلى أن يحدث كل هذا، فإن بيدنا اتخاذ ما يلزم للحد من انفلات الأسعار المبالغ فيه، ومن جشع التجار والمحتكرين، ليس بالوسائل القديمة التى لم تعد تناسب واقعنا، بل بفتح باب المنافسة بين صغار التجار وصغار الموردين وصغار البائعين، و«صغار» كل من يرون فرصة لتحقيق ربح ولو بسيط، لو فقط أتيحت لهم فرصة المنافسة.