بقلم - زياد بهاء الدين
المتابعون للتصريحات الصادرة من صندوق النقد الدولى عن مصر لابد قد لاحظوا تغيرا واضحا فى موقفه من أزمتنا الاقتصادية الراهنة وكيفية الخروج منها. حتى الصيف الماضى كان الموقف متشددا ومتمسكا بضرورة قيام مصر بتحقيق ثلاثة مستهدفات: تحرير سعر الصرف، والإسراع ببرنامج الخصخصة، والحد من تدخل الدولة فى الاقتصاد. وكان واضحا أيضا أن هذا الموقف الصارم لا يعبر عن الصندوق وحده، بل عن توافق عام بين الدول الكبرى والمؤسسات الدولية وبشكل ضمنى أشقائنا العرب.
لهذا جاءت تصريحات مديرة صندوق النقد الدولى منذ يومين، خلال حضورها لمؤتمر المناخ مفاجئة، إذ قالت إنها والصندوق يدعمان سياسة مصر فى إعطاء الأولوية لمكافحة التضخم قبل تحرير سعر الصرف. هذا بينما كانت كريستالينا جورجييفا نفسها قد قالت فى حديث تلفزيونى يوم ٥ أكتوبر الماضى - قبل طوفان الأقصى بيومين - إن مصر سوف تستمر فى «استنزاف مواردها» ما لم تصحح سعر الصرف فورا.
سبحان مغير الأحوال! كل هذا بسبب الحرب فى غزة؟
للدقة والأمانة فإن خطاب صندوق النقد الدولى كان قد بدأ يتغير بحذر فى الأسابيع السابقة على حرب غزة استنادا إلى أن الحكومة المصرية حققت تقدما فى برنامج التخارج من الشركات المملوكة لها بلغت قيمته - حسب تصريحات رئيس الوزراء فى يوليو الماضى - مليارى دولار، ولا شك أن القيمة زادت من وقتها. ولكن ظل موقف الصندوق والمنظمات الدولية الأخرى والدول الداعمة مرحبا بهذا التقدم ولكن محذرا من عدم تحرير سعر الصرف ومن غياب برنامج أشمل للإصلاح الاقتصادى.
ثم وقع طوفان الأقصى فى ٧ أكتوبر، ومن بعده رد الفعل الانتقامى لإسرائيل الذى تحول إلى عدوان شامل لتهجير شعب بأكمله والقضاء على إرادته وتدمير البنية التحتية المدنية قبل العسكرية والعصف بكل القوانين والأعراف الدولية. والواضح أن الحرب غيرت كل الموازين، وعلى رأسها عودة مصر للصدارة الإقليمية باعتبارها البوابة الوحيدة لأى تسوية محتملة للمأساه الواقعة فى غزة، سواء إدخال مساعدات إنسانية، أم إجلاء الجرحى، أم إخراج الأجانب المحجوزين، أم على المدى الأطول إعادة بناء غزة. ومع تغير هذه الموازين الإقليمية، تغير الخطاب الصادر من صندوق النقد ومعه باقى المنظمات الدولية تغيرا واضحا لا يكاد حتى يسعى لتبرير تناقضه مع المواقف السابقة.
المهم ما أثر ذلك علينا؟
طبعا يسعدنى مثل أى مصرى حريص على مصلحة بلده أن تكون هناك بوادر لانفراج وضعنا الاقتصادى. وكل ما يخفف عن الناس صدمة الغلاء المستمر منذ أشهر طويلة محل للترحيب. ولكن مصلحتنا الأبعد تستدعى التوقف عند ثلاثة أمور:
أولها أن موقف صندوق النقد الدولى «المرن» مؤخرا يؤكد أن مواقف المنظمات الدولية، مهما جرى إحاطتها بسياج من الاحترافية والبحوث والأرقام والنظريات الرصينة، فإنها بلا شك ناطقة بمواقف الدول الكبرى ومعبرة عن سياساتها العامة.
الأمر الثانى أن الاقتران المستقر فى الرأى العام المصرى بين تحرير سعر الصرف وبين الغلاء قد يكون صحيحا على المدى القصير ولكنه ليس كذلك على المدى الأطول. بمعنى آخر فإن كان البعض يخشى من أن يؤدى تحرير سعر الصرف إلى قفزة جديدة فى الأسعار، فإن الأكيد أن عدم تصحيح سعر الصرف على المدى الطويل واستمرار الفجوة الكبيرة بين السوق الرسمية والسوق السوداء سوف يسبب بالتأكيد المزيد من الضرر العميق للاقتصاد القومى ويجعلنا نواجه موقفا أصعب مستقبلا.
أما الثالث فهو أن هذه الانفراجة الدولية، والتى لم تكن متوقعة، ينبغى أن تتحول إلى حافز لنا على الإصلاح الاقتصادى الحقيقى، ولا تكون مثل المسكن الذى يخفى أعراض المرض لفترة وجيزة بينما الأسباب قائمة وستعود للصدارة متى زال مفعوله. نريد لهذه الانفراجة المحتملة - إن كانت حقيقية - أن تدفعنا وتساعدنا وتمنحنا الفرصة لدعم المسار الاقتصادى، ولإطلاق طاقات الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير كى نبدأ فى الخروج من الأزمة بشكل حقيقى ومستدام.