بقلم - زياد بهاء الدين
الأسبوع الماضى، كان حافلا بالانتخابات فى مختلف أنحاء العالم. فى المكسيك والهند وجنوب إفريقيا، وكلها بلدان كانت حتى وقت قريب تعتبر «نامية»، حيث فازت سيدة لأول مرة (كلوديا شاينباوم) بمنصب رئيس جمهورية المكسيك، بينما فى الهند جرت انتخابات برلمانية على مدى ستة أسابيع، والأرجح أن يفوز بها الحزب الحاكم برئاسة «مودى»، أما فى جنوب إفريقيا فالتوقعات ألا يتمكن حزب «نيلسون مانديلا» من الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلقة التى تمتع بها لمدة ثلاثين عاما ويضطر لتشكيل حكومة ائتلافية. من جهة أخرى، وفى بلدان الديمقراطيات القديمة، فإن سكان الاتحاد الأوروبى يستعدون خلال الأيام القادمة لانتخاب برلمان جديد.
هذه الانتخابات الأربعة وحدها تضم بلدانا يقطنها حوالى اثنين مليار ومائتى مليون شخص، بما يعنى أنه خلال هذا الأسبوع وحده سيكون أكثر من ربع الناخبين فى العالم كله قد أتيحت لهم فرصة الإدلاء بأصواتهم فى انتخابات رئاسية أو برلمانية.
هذه اختبارات هامة للديمقراطية، لأنها تأتى فى أعقاب حقبة تعرضت فيها ممارسات الديمقراطية لانتكاسات عديدة، وباتت الفكرة فى حد ذاتها محل انتقاد حتى بين من كانوا فى الأصل مؤيدين لها.
فى بعض البلدان الأوروبية وفى الولايات المتحدة جاءت الانتخابات بأشخاص وقوى وتيارات معادية للعدالة وحكم القانون وطارحة لأفكار بعيدة كل البعد عن المثل العليا التى نهضت عليها فكرة الديمقراطية خلال العقود الماضية. وفى بلدان أخرى فوجئنا بحكومات تقصر مبادئ الحرية والقانون والعدالة على شعوبها داخليا، ولكن تطبق على شعوب العالم الأخرى (النامية بالذات) معايير مختلفة تماما بل ومعادية لكل ما تروج له داخليا. وهذه الازدواجية فى المعايير ظهرت فى حالات كثيرة ولكن تفجرت على السطح فى مسلك بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة حيال العدوان الإسرائيلى على غزة وسكانها، بل بلغت انحدارا غير مسبوق فى التهديد الأمريكى بمعاقبة أى محكمة دولية تدين إسرائيل!
من جهة أخرى فإن سيادة الديمقراطية كنموذج مثالى للحكم شهدت منافسة لا يستهان بها مع صعود الصين كقوة اقتصادية ثانية عالميا ونجاحها المذهل فى أن توفر لمئات الملايين خلال الأربعين عاما الماضية مخرجًا من المجاعة والفقر والتخلف. وقد قدمت بذلك نموذجًا مغايرًا لا يعتبر الديمقراطية البرلمانية هدفا أو إطارًا مطلوبًا من الأصل، بل اعتمدت نظاما معقدا لتصعيد قيادات الدولة والحكم من خلال الحزب الشيوعى الصينى (الذى يتجاوز عدد أعضائه المائة مليون!). وفى بلدان أخرى جرى الحديث عن نماذج مخالفة للمشاركة فى الحكم، ليس فيها انتخابات ولا برلمانات، ولكن تعتمد على شراكات وتوازنات قبلية وطائفية واقتصادية.
لماذا إذن، بعد كل ما تعرضت له فكرة الديمقراطية من اضطراب وانتقاد وضياع للمصداقية، تظل مطلبا وأسلوبا معتمدا لتنظيم الحكم ليس فقط فى البلدان العريقة فى هذا النظام السياسى وإنما فى البلدان «النامية» حديثة العهد نسبيا بها؟ لماذا لا يعدل العالم عن هذا النموذج الغربى فى الأصل بعد تراجع قيمته وفاعليته؟
أظن أن ونستون تشرتشل – رئيس الوزراء البريطانى خلال الحرب العالمية الثانية وأحد رموز الانتصار على الفاشية النازية – هو الذى قال «إن الديمقراطية نظام سيئ للغاية، بل إنه نظام بشع (ترجمة awful(، ولكنه بالتأكيد أفضل أنظمة الحكم المتاحة».
لعلها بلاغة من «تشرتشل» تحمل قدرا من المبالغة، خاصة وأن التعبير من سياسى محنك كان معروفا باللغة والحنكة والذكاء والقدرة على صك التعبيرات المتميزة.. ولكن الفكرة الرئيسية تظل قائمة؛ أن الديمقراطية لو لم تعد نموذجا مثاليا للحكم، فما البديل لضمان مشاركة الناس فى اختيار من يحكمهم، وفى تداول السلطة، وفى تصحيح الأخطاء التى تقع فيها الحكومات وتعديل مساراتها، وفى حماية الحريات العامة والحقوق الخاصة، وفى فرض العدالة والمساواة وحكم القانون؟.
الحقيقة لا أعرف نظاما بديلا يمكن الركون إليه، وأجدنى فى هذا الموضوع متفقا مع «تشرتشل» فى إدراك نواقص وعيوب وحدود الديمقراطية.. ولكن الاعتراف مع ذلك بأنها أفضل المتاح. ولهذا فإن الحوار العاقل الدائر فى العالم بين المفكرين والسياسيين والأكاديميين المنشغلين بالتدهور الذى طرأ فى العقدين الماضيين على قيمة الديمقراطية ليس حوارًا منكرًا لها بالكامل، بل باحث عن كيفية تصحيح المشاكل والنواقص التى أصابتها.
ونقطة البداية أن الديمقراطية ليست مجموعة من الطقوس والإجراءات التى يلزم اتباعها كى يكون الحكم «ديمقراطيا»، وليست صناديق اقتراع ودعاية انتخابية ومقاعد برلمانية، بل جوهرها تحقيق نتائج معينة: الشراكة فى الحكم وتداول السلطة وخضوع الدولة للقانون. وكل ما يحقق هذه النتائج يكون ديمقراطيًا.. وكلما جرى تطويرها وتصحيحها نجحنا ربما فى جعلها أقل «بشاعة» مما قدره السياسى البريطانى المخضرم