فى مؤتمر دعت إليه جمعية رجال الأعمال المصرية من يومين- حول مستقبل الصناعة والاستثمار والتصدير- طرح الحاضرون العديد من الأفكار حول ما تحتاجه الصناعة الوطنية للانطلاق.
افتتح المؤتمر السيد/ على عيسى، رئيس الجمعية، معبرًا بهدوئه الشديد (الذى يُجبر المستمعين على الإنصات)، وبلباقة عن تطلعات المصنعين المصريين وهمومهم. وألقى السيد/ أحمد سمير، وزير الصناعة، كلمة استعرض فيها تطورات الفترة الأخيرة من ناحية الإفراج عن البضائع الجمركية المعطلة، وتوفير أراضٍ صناعية جديدة، وإصدار تراخيص تشغيل، وتوفير تمويل بفائدة مدعومة. وتحدث نواب برلمانيون ورؤساء غرف تجارية وخبراء ومصنعون فى مختلف المجالات.
لا أظن أن أحدًا يختلف على أهمية النهوض بالصناعة الوطنية من أجل تعديل مسار الاقتصاد. وهو تعديل ضرورى إذا كان طموحنا ليس مجرد تجاوز أزمة مالية بل التعامل مع أسبابها وجذورها والخروج من دائرة الغلاء والبطالة والديون بشكل عميق ومستدام.
استوقفنى مع ذلك فى المداخلات المختلفة تكرار الحديث عن ضرورة تعديل القوانين المؤثرة فى الصناعة.. قوانين الاستثمار، والصناعة، والضرائب، والعمل، والشركات، والاستيراد والتصدير.. وغيرها. البعض يطالب بتعديلات جذرية، وآخرون بـ«نسف القديم» وإصدار تشريعات جديدة تحل كل المشاكل.
وجدت نفسى مختلفًا مع ما قيل فى هذا المجال، رغم أنه مجالى المهنى، والطبيعى أن أتحمس للإصلاح القانونى. ولكن الحقيقة- ربما لمشاركتى فى كثير من التشريعات الاقتصادية على مدى عشرين عامًا- أن قناعتى اتجهت مع الوقت إلى أن الإصلاح الاقتصادى الجاد لا يحتاج فى الغالب إلا لتغييرات قانونية محدودة، إن احتاجها أصلًا.
الأهم من التشريع هو الاتفاق على ما نريد أن نحققه، أى تحديد السياسات الاقتصادية السليمة. وهذه لا تحتاج بالضرورة لتعديل تشريعى، بل توجه مختلف لإدارات الدولة وأسلوب مختلف فى التنفيذ.
هل نحتاج مثلًا لتغيير القوانين كى نطلق يد القطاع الخاص الصناعى فى الاستثمار والتشغيل والتصدير؟ لا أظن، بل غل يد البيروقراطية عن العرقلة اليومية. وهل نحتاج تشريعًا للحد من منافسة الدولة غير المتكافئة مع القطاع الخاص؟ لا أرى ذلك، بل نحتاج توجهًا سياسيًا لتحديد وتنظيم دور الدولة فى النشاط الاقتصادى. وهل نحتاج نصوصًا جديدة لكى نطبق نصوصًا قائمة بالفعل وشديدة الوضوح عن سرعة إصدار التراخيص، وتوفير الأراضى والمرافق، ودعم تدريب العمالة؟ إطلاقًا، بل مجرد تطبيق تلك النصوص القديمة بجدية.
قبل تعديل القانون أو حتى التفكير فيه نحتاج سياسة واضحة، وأولويات أكثر وضوحًا، وقناعة داخل مؤسسات الدولة بأن المستثمر الصناعى ليس خصمًا بل شريكًا، وأن مكسب المصنعين لا ينتقص من الدخل القومى بل يضيف له، ويعظم مكاسب المجتمع والدولة والاقتصاد الوطنى.
فإذا تحددت هذه السياسة وباتت دستورًا ينظم ويقيد كل أجهزة الدولة، عندئذ فقط يمكن النظر فيما يلزم تعديله فى هذا التشريع أو ذاك، وما يحتاج مزيدًا من الإيضاح أو التفصيل فى لائحة أو قرار، وما يتطلب مجرد متابعة تنفيذية على أرض الواقع.
إصدار تشريعات جديدة أو مجرد الحديث عنها جذاب، ويُعطى شعورًا بالإنجاز، وبأن هناك شيئًا كبيرًا يجرى الإعداد له، وأن صفحة بيضاء على وشك أن تنفتح ومعها مرحلة جديدة تتجاوز عيوب الماضى.
ولكن هذا نادرًا ما يتحقق على أرض الواقع، لأن الانشغال بقوانين جديدة يعطل البحث التفصيلى فيما هو معوق أو مقيد، كما أن المشاكل والعوائق لا تختفى بتشريع جديد بل تعود لتجد طريقها من خلال النصوص المستحدثة، إن لم تكن النية متوافرة لانتهاج سياسة وفلسفة جديدتين.
التشريعات الجديدة لها بالتأكيد ما يبررها، حينما يكون لها ضرورة. ولكن ما أقترحه أن يكون البدء بالفكرة، وبالسياسة الاقتصادية، وبالحوار مع الأطراف المعنية، وبالاتفاق على إعادة الاعتبار للصناعة والقطاع الصناعى والمستثمرين الصناعيين. بعد ذلك يأتى القانون ليعبر عن الفكرة لا ليستبدلها ولا ليصبح هدفًا فى حد ذاته أو إنجازًا ترحب به المنظمات الدولية دون اهتمام بآثاره الواقعية.
وأدعوكم خلال الأسابيع القادمة للمشاركة معى فى فتح ملف الصناعة الوطنية.. كى نتفق أولًا على الفكرة والفلسفة والمسار.. ثم ننظر فى كيفية إقناع الدولة بذلك.. وأخيرًا يأتى التشريع.