أبطال الأسبوع الماضى كانوا أعضاء الفريق القانونى لدولة جنوب إفريقيا، التى فاجأتنا جميعًا- خصوصًا فى الوطن العربى- برفع دعوى ضد إسرائيل لإثبات ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية ضد أهل غزة بالمخالفة لالتزاماتها الدولية، والمطالبة بوقف العدوان فورًا.
السؤال الذى طرحه العديد من الأصدقاء، وأتصور أنه كان على بال الكثيرين: ما الجدوى من المحاكمة؟، وهل يمكن أن تسفر عن إدانة إسرائيل؟، وهل لدى المحكمة سلطة تنفيذ حكمها بشكل ملموس وعملى، أم أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون سجالًا سياسيًّا أقصى غاياته تسجيل موقف إعلامى وأخلاقى ضد إسرائيل، بينما العدوان والقتل مستمران؟.
وللرد على هذه الأسئلة، قد يكون من المفيد توضيح بعض الحقائق الرئيسية عن محكمة العدل الدولية وما لديها من صلاحيات كى تكون توقعاتنا فى محلها، فلا نمعن فى التفاؤل، ولا نهدر قيمة المحاكمة بالكامل.
محكمة العدل الدولية الواقعة فى مدينة لاهاى بهولندا هى الجهاز القضائى الرئيسى للأمم المتحدة، وقد أُنشئت بموجب ميثاق الأمم المتحدة الموقع فى ٢٦ يونيو ١٩٤٥، وبدأت العمل فى عام ١٩٤٦، وعُرضت عليها أول دعوى فى مايو ١٩٤٧. ومنذ نشأتها حتى الأسبوع الماضى، لم يُقيد أمامها إلا ١٩٢ دعوى.
وأهم ما يميز هذه المحكمة أمران: الأول أنها تختص بالدعاوى المرفوعة بين الدول فقط وليس الأفراد، ولهذا فلا يكون المسؤولون الحكوميون أو الأفراد عمومًا أطرافًا فى الدعاوى المرفوعة أمامها، بل الدول المتهمة بخرق قواعد القانون الدولى والمعاهدات الدولية. أما الأمر الثانى الذى يميزها فكونها بمثابة محكمة مدنية وليست لها أى ولاية قضائية جنائية، (هذا الاختصاص لمحاكم أخرى، أشهرها المحكمة الجنائية الدولية).
الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا تنسب لإسرائيل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية Genocide، وهى أخطر جريمة فى القانون الدولى. وقد صك المصطلح المحامى اليهودى البولندى «رافاييل لامكين» عام ١٩٤٣- ويعنى حرفيًّا «القتل الجماعى»- لوصف مذابح النازية لليهود. وقد أسفرت جهوده عن صدور اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالإبادة الجماعية عام ١٩٤٨، (والنافذة من يناير ١٩٥١)، والتى عرفت فى مادتها الثانية هذه الجريمة بأنها «الأفعال التى تُرتكب بنية القضاء الكلى أو الجزئى على مجموعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية فى حد ذاتها».
ولأن المحكمة كما ذكرنا ذات طبيعة مدنية لا جنائية، فإن جنوب إفريقيا لا تدّعِى على إسرائيل جنائيًّا، بل تنسب إليها مخالفة التزاماتها الدولية وفقًا للاتفاقية التى تحظر الإبادة الجماعية، وتطالب المحكمة موضوعيًّا بإصدار حكم بذلك، وفى شق عاجل بإصدار قرار بوقف العدوان على أهل غزة. ووفقًا للمتعارف عليه، فإن الأرجح أن صدور الحكم الموضوعى قد يستغرق سنوات أمام المحكمة. أما الطلب العاجل بوقف العدوان، فمن الممكن أن يصدر القرار بشأنه خلال أسابيع قليلة. ولكن حتى فى حال صدور الحكم العاجل بوقف العدوان فلن يكون له أثر فعلى على الأرض لأنه لا يوجد ما يلزم إسرائيل باحترامه، كما حدث مثلًا مع الحكم الصادر من ذات المحكمة فى يناير ٢٠٢٢ بوقف العدوان الروسى على أوكرانيا، وتجاهلته روسيا كأن لم يكن.
إلى هنا ينتهى الوصف المختصر للوضع القانونى للمحكمة، وأشكر الزميلة الدكتورة رنا القهوجى، المدرس بقسم القانون الدولى بجامعة الإسكندرية، على مساهمتها فى تبسيط الموضوع.
ولكن هل معنى ما سبق أن محكمة العدل الدولية لا قيمة لها، وأن هذه المبادرة من جنوب إفريقيا مجرد استعراض تلفزيونى؟. بالتأكيد لا، بل لها قيمة وأثر كبيران، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: لأن مجرد انعقاد المحكمة وطلب إثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وتقديم الملف والمرافعات المؤيدة له أفسح المجال لطرح الموضوع وتوثيقه رسميًّا وعرض الأدلة المؤيدة على العالم بشكل يتجاوز فى مصداقيته ما للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى.
ثانيًا: لأن إسرائيل ذاتها واعية بأهمية وخطورة الموضوع لما له من أثر سياسى وإعلامى خطير. ويدل على ذلك مثولها أمام المحكمة، دون تحفظ، واستعانتها بأحد عمالقة القانون الدولى (مالكولم شو)، وتقديم الدفوع لإثبات عدم مخالفتها الاتفاقية الدولية الخاصة بالإبادة الجماعية، إدراكًا منها أن هذه لحظة فارقة فى تحديد المسؤولية الأخلاقية والسياسية، حتى لو لم تكن لها أبعاد عملية.
ثالثًا: لأن ثبوت حكم مدنى ضد إسرائيل يمكن أن يدعم موقف ضحايا عدوانها المتقدمين بدعاوى أخرى جنائية- أمام المحكمة الجنائية الدولية، التى يمثل أمامها الأفراد لا الدول- وللمطالبة بتعويضات لاحقًا.
خلاصة الكلام أن المحاكمة الجارية لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وإن كان لا يُرجح إطلاقًا أن تؤثر على الواقع الأليم الذى يتعرض له أهل غزة أو أن توقف العدوان الإسرائيلى، إلا أنها قد تكون خطوة فارقة فى تثبيت حقيقة أن إسرائيل، التى تعتبر نفسها ممثلة لضحايا أكبر جريمة إبادة فى التاريخ قامت بها النازية، صارت بعد ستين عامًا المرتكب الأكبر لذات الجريمة، فشكرًا يا جنوب إفريقيا!.