بقلم - زياد بهاء الدين
تابعت ما تداوله الإعلام الأسبوع الماضى من تطورات إيجابية تستهدف بث رسالة طمأنة بين الناس، وعلى رأسها استقرار سعر الصرف على مستوى جديد، وورود عدة مليارات من الدولارات للبنك المركزى فى صورة ودائع من الدول الشقيقة، ووعود باستثمارات بأضعاف ذلك من صناديقها السيادية، بالإضافة لإجراءات توفير احتياجاتنا من القمح.
والحقيقة أن تحرك الدولة بسرعة على كل الأصعدة كان ملحوظا ويستحق التقدير، وقد تضمن تحركات خارجية فى دول الخليج العربى وفتح أبواب التعاون مع المؤسسات المالية العالمية، أما داخليًا فظهر فى الترتيبات الخاصة بتوريد القمح وطرح سلع غذائية مع حلول شهر رمضان ومحاولة ضبط الأسعار المنفلتة.. ولكن من جهة أخرى، فإن من الخطأ تصوير ما سبق باعتباره تجاوزًا للأزمة، لأن ما اتخذته الدولة من إجراءات خفف من ضغط المخاطر المُلحة، ولكنه لم يخاطب المشاكل الهيكلية التى تسببت فيها من الأصل والتى أزعم أنها لم تكن وليدة الغزو الروسى لأوكرانيا، بل متراكمة من قبل ذلك.
الودائع الخليجية التى دخلت خزائن البنك المركزى، مهما كانت شروطها مريحة، فإنها فى النهاية ديون جديدة تضاف إلى رصيد المديونية الخارجية الذى كان كبيرا قبل وقوع الحرب الأوكرانية. والشروط الميسرة يمكن فى ظل تغيرات سياسية مقبلة أن تتحول إلى شروط مجحفة وأدوات للضغط كما شهدنا من قبل حتى من بعض أشقائنا العرب. وبرامج المساندة الدولية هى الأخرى تأتى بشروط قد تكون سليمة من الناحية الفنية ولكنها لا تأخذ فى الاعتبار الأوضاع الاجتماعية، كما أنها فى كل الأحوال ديون وتزيد بدورها من رصيد مديونيتنا الخارجية. حتى الاستثمارات الموعود بها أو التى تحققت بالفعل جاءت فى شكل شراء أسهم بعض الشركات الخاصة الأكثر نجاحا وتأثيرا وسيطرة على السوق المصرية، وهى بالطبع محل ترحيب، ولكن يصعب تجاهل حقيقة أنها استفادت من انخفاض أسعار الأسهم الوطنية ومن احتياجنا لتلك الاستثمارات بشكل ملح.
ما أقبلت عليه الدولة كان ضروريا لوقف تفاقم أزمة شَعرَ الناس بتداعياتها بسرعة وبشدة،. ولكن علينا إدراك أن هذه الإجراءات لم تحل أصل المشاكل التى أدت بنا لهذا الوضع، بل أرجأت وقوع المخاطر فى الوقت الراهن، كما أنها أضافت لأعبائنا مستقبلا.. لذلك فالمهم أن ننظر إلى الأزمة الحالية باعتبارها فرصة جديدة - ولا أقول الأخيرة - كى نتأمل الأسباب، ونتعامل معها بجدية وصراحة وحرص من كل الأطراف على المصلحة العامة.
لابد من تشجيع الاستثمار الخاص - المحلى والأجنبى - خاصة فى القطاعات الإنتاجية، لأن كل جهد تبذله الدولة، وكل تضحية يقدمها الشعب، سيكونان ضائعين إن لم تصاحبهما طفرة فى الاستثمار الصناعى والزراعى والخدمى بما يجلب المزيد من التشغيل والتصدير ويحقق استقرارا اقتصاديا واجتماعيا. ورغم الجهود الهائلة المبذولة من هيئة الاستثمار وتحركاتها المستمرة والدؤوبة، إلا أن القضية تتجاوز ما يمكن لهيئة واحدة أن تقوم به ويحتاج تنسيقا على أعلى المستويات بين مختلف الوزارات والمصالح والأجهزة - وهو غير حادث فى الوقت الحالى - كما يحتاج قبل كل شىء إلى تغيير فى توجهات الدولة حيال الاستثمار.
وهناك حاجة ملحة لتحديد دور الدولة فى الاقتصاد، ليس فقط لمنح القطاع الخاص المساحة التى يتحرك فيها بحرية، وإنما أيضا لكى تكون أولويات إنفاق الدولة أكثر تناسبا مع الموارد المتاحة فى المرحلة المقبلة. وقد تابعت إعلاميا أن مركز معلومات مجلس الوزراء بصدد إعداد إطار يحدد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى.. ولعلها بداية طيبة، والمهم أن تكتمل وتأتى معبرة عما تحتاجه السوق بالفعل.
وعلينا التعامل مع قضية الأسعار وانفلاتها بشكل واقعى ومدروس لا خطابى وحماسى، والذى أقصده هو إدراك أن الأدوات التقليدية لضبط الأسعار ومراقبة التجار وتشديد العقوبات وإطلاق الحملات لم تعد أدوات مناسبة ولا كافية، رغم الجهود المبذولة وراءها، بل لابد أن يحل محلها اعتماد أكبر على تشجيع المنافسة، وإطلاق طاقات الشباب وإبداعهم وحماسهم لاقتحام الأسواق، لو توافرت لهم سبل ذلك دون معوقات ودون تكاليف غير مطلوبة.
التدفقات الدولارية التى وردت لمصر فى الأسبوع الماضى وهدّأت من روع الأسواق نتاج جهد وسرعة تصرف من الدولة، نحترمها ونقدرها.. ولكن دعونا لا نسارع باعتبار الأزمة انتهت أو حتى خفت وطأتها، بل لتنتهز الفرصة لفتح حوار مجتمعى واسع حول مستقبل اقتصادنا وكيفية إطلاق طاقاتنا الإنتاجية المعطلة واستغلال إمكاناتنا الاستثمارية كى نخرج من هذه الأزمة باقتصاد على مسار سليم يساعدنا على تجنب ما قد يأتى من أزمات فى المستقبل.