الواقع يفرض نفسه. ولا مفر من التعامل مع معطيات اليوم والتفاعل مع ما يطرأ على المشهد الإنسانى الكارثى في غزة من تغيرات يومية بحكمة وبإعلاء لمصلحة الوطن أولًا، وبتقدير أيضًا للمسؤولية التاريخية الواقعة على مصر وقيادتها في هذا الظرف الخطير.
منذ بداية العدوان الاسرائيلى على غزة، وبعد أن اتضحت النوايا الإسرائيلية في انتهاز الفرصة من أجل تجاوز الرد على طوفان الأقصى وتحرير الرهائن واتخاذ التدابير الوقائية إلى تصفية الوجود الفلسطينى في غزة وتنفيذ عملية إبادة جماعية لشعبها ورسم خريطة وواقع جديدين للمنطقة، منذ البداية أعلنت مصر عن موقفها الواضح بضرورة وقف العدوان فورًا وحماية أهل غزة ورفض المخطط الإسرائيلى بتهجيرهم إلى سيناء وتصفية حقوقهم المشروعة. ووقف الشعب المصرى بأكمله وراء هذا الموقف، كما عبّرت القيادات الفلسطينية عن تقديرها له.
ولكن مَن كان يتصور أن تبلغ الوحشية الإسرائيلية ما بلغته، مع سقوط ثمانية وعشرين ألف شهيد معروفين وغيرهم غير معروفين، وعشرات الآلاف من الجرحى، ومليونين من المُهجَّرين من بيوتهم والمتعرضين للموت جوعًا وعطشًا ومرضًا وبردًا؟.
مَن كان يتصور أن يقف العالم متفرجًا على أكبر عملية إبادة جماعية تجرى في تاريخنا المعاصر دون أن يُحرك ساكنًا لوقف العدوان الجنونى، وأن يكتفى بتصريحات خائبة ومناورات دبلوماسية لم تسفر إلا عن منح إسرائيل المزيد من الوقت والحماية اللذين تنشدهما لاستكمال مشروعها؟.
ومَن كان يتصور ألّا تكتفى بعض الدول التي تسمى بالعظمى بالفرجة والسكوت، بل يتبارى زعماؤها في التنافس على دعم إسرائيل في كل ما فعلته وما سوف تفعله، مع إضافة فقرة ختامية في كل تصريح لهم عن ضرورة «محاولة الحد من الخسائر البشرية»؟.
ومَن كان يتصور أن يرى صناع القرار من أنحاء العالم مشاهد قتل الأطفال وهدم المستشفيات على رؤوس المرضى وقنص الأهالى العزل وأطقم الإسعاف ولا يتحركون؟.
ومَن كان يتصور أن يبلغ أقصى طموحنا مجرد صدور قرار وقتى من محكمة العدل الدولية بإدانة إسرائيل رغم أنه قرار غير قابل للتنفيذ، ثم لا يصدر؟.
ومَن كان يتصور أن تتم مطاردة شعب بأكمله من بيت إلى بيت ومن قرية إلى الأخرى حتى ينتهى الأمر بـ«حشر» مليون ونصف المليون بنى آدم في بلدة صغيرة مدمرة لا تتسع إلا لربع المليون، ثم يبدأ الحديث علنًا عن توقعات اجتياح هذه البلدة وكأننا ننتظر تحديد موعد مباراة رياضية لا مذبحة جديدة؟.
كل اعتقاد- مهما كان متواضعًا- بأن الجنون الإسرائيلى ستكون له حدود، وأن الضمير العالمى سوف يستيقظ، وأن مظاهرات الشباب في مختلف الدول سوف تضغط على حكامها، وأن النظام العالمى لن يقبل استمرار هذه الكارثة الإنسانية، كل هذه التصورات انهارت تمامًا، ولم يتبقَّ سوى انتظار المواجهة الأخيرة في «رفح».
والأكيد أن مصر اليوم تقف في واحدة من أصعب وأدق اللحظات والمواقف التي تعرضت لها منذ بدء الصراع العربى الإسرائيلى لأن قدَرنا أن نكون دولة المواجهة الأولى في سنوات الحرب مع إسرائيل، وأن نعود دولة المواجهة الأولى في المحنة الراهنة، وإن كانت هذه المرة مواجهة دبلوماسية وإنسانية.
لا أظن أن هناك شكًّا في أن مصر بذلت جهدًا دبلوماسيًّا هائلًا في تجنب أن تصل الأمور إلى هذا الوضع المأساوى، بل الظاهر للجميع أن كل إمكاناتنا السياسية والعلاقات الدولية قد تم تسخيرها لمحاولة وقف العدوان على نحو ما تكرر مع تدخلات دول أخرى.
ولكن بينما في إمكان الدول الأخرى أن تكتفى بذلك، وتنفض يدها عن الموضوع، وتزعم أنها قد بذلت أقصى جهدها، ولم يعد لديها ما تفعله، فإن هذا ليس اختيارًا يمكن لمصر أن تلجأ إليه، لا من منظور الواقع الجغرافى، الذي يجعلنا في الصدارة مع كل ما يخص غزة وأهلها، ولا من منظور المسؤولية التاريخية والقومية، التي تُحتم علينا أن نقف مع الشعب الفلسطينى في محنته ومع الحق الفلسطينى في كل الظروف.
وفّق الله مصر وقيادتها للقرار السليم ولما يحافظ على بلدنا وأمنه واستقراره، ولما يجعلنا- كما كنّا دائمًا- ملتزمين بواجبنا القومى ومسؤوليتنا التاريخية.