بقلم - زياد بهاء الدين
بينما الدولة وأجهزتها الرسمية والإعلامية، ومعها الأحزاب السياسية، مشغولة بالإعداد للحوار الوطنى السياسى المرتقب، فإن حوارًا اقتصاديًا موازيًا يدور منذ شهور حول الأزمة الراهنة وتحديات الحياة اليومية التى يواجهها الناس.هذا الحوار الاقتصادى حادث بالفعل على صفحات الجرائد، وفى البرامج التلفزيونية، ومن خلال مؤتمرات وندوات متاحة على الإنترنت.. وهو حوار يتمتع بقدر كبير من التنوع وحرية التعبير والنقد.
خلال الشهور الثلاثة الماضية عادت أصوات معلقين اقتصاديين مستقلين للظهور بعد انقطاع طويل، ومعهم كُتاب ينقلون هموم ومشاغل الشارع المصرى، ونجوم البرامج الحوارية يقتحمون الشأن الاقتصادى بجسارة وبلا قيود، والنقاش تطرق إلى كل المواضيع، من الاستثمار إلى الدين العام، إلى أولويات الإنفاق الحكومى، إلى السياسات المالية والنقدية والضريبية، وبالطبع التضخم والحماية الاجتماعية.. وقد ساهم فى إثراء هذا الحوار قيام الحكومة من جانبها مؤخرًا بطرح بعض الأفكار والمبادرات للنقاش العام، أهمها ربما «وثيقة ملكية الدولة»، بما أضاف إلى زخم النقاش الجارى.
هذا الانفتاح الجديد فى الحوار الاقتصادى أمر جيد بلا شك، ويستحق أن نرحب به، ونشجع استمراره، ونساهم فيه بكل إخلاص، لأن التحديات الاقتصادية الراهنة - عالميا ومحليا - من الجسامة والخطورة ما يجعل تضافر الآراء والجهود لمواجهتها أمرًا ضروريًا وواجبًا قوميًا.
مع ذلك، فإن هذا الحوار المفتوح يجب ألا يكون هدفًا فى حد ذاته ولا نهاية المطاف، بل يلزم أن يجد تفاعلا واستجابة من جانب الحكومة والجهات الرسمية، وأن يفضى إلى تغييرات ملموسة فى التوجهات والسياسات والبرامج، وإلا صار بلا طعم وبلا فائدة.. والذى أقصده بالاستجابة الحكومية ليس بالضرورة الاتفاق من جانبها على ما يطرحه الخبراء المستقلون، بل التفاعل بجدية سواء بالرد، أو بتقديم بيانات ومعلومات مفيدة، أو بطرح رؤى مغايرة، أو طبعًا بالاستفادة مما يقدم إليها من مقترحات، دون اعتبار ذلك هزيمة أو استجابة لضغوط أو اعترافًا بتقصير أو فشل.. فالظرف - مرة أخرى - يحتاج اصطفافًا وطنيًا تامًا وتجاوزًا للاعتبارات الشخصية والحسابات السياسية.
دعونى، على سبيل التحديد ولكى لا يكون الكلام نظريا ومرسلا، أقترح أن تتفاعل الحكومة مع المطروح تحديدا بالنسبة لقضيتى «تحسين مناخ الاستثمار» و«النهوض بالصناعة المصرية».. وقد اخترت هذين العنوانين لأنهما فى تقديرى يمثلان عصب إحياء الاقتصاد الحقيقى، ودونهما فإن أى جهود أخرى لتوفير التمويل أو بيع الأصول أو توزيع المواد والسلع - مهما كانت ضرورية على المدى القصير - ستكون مسكنة ومؤقتة.
ففى الموضوعين فإن الساحة لا تخلو من خبراء وأصحاب رؤى ثاقبة.. ولا أقصد بذلك من يظهرون إعلاميا فقط، بل الأهم منهم العاملون والمستثمرون فى مختلف المجالات.. اتحاد الصناعات المصرية، والاتحاد العام للغرف التجارية، وجمعيات المستثمرين، وتجمعات رجال وسيدات الأعمال، وروابط الصناعات الصغيرة، ومجالس إدارات المناطق الصناعية، وهناك من الدراسات المعدة من المراكز البحثية والجامعات المصرية ومن المؤسسات الدولية ما يلزم الاستعانة به بدلا من أن يظل حبيس الأدراج.
المطلوب أن يتحول الحوار الاقتصادى المرسل والدائر بحرية فى الساحة الإعلامية وعلى صفحات التواصل الاجتماعى إلى حوار وطنى منظم ومدروس تديره جهات متخصصة.. أقترح أن تكون هيئة الاستثمار بالتعاون مع اتحاد الصناعات المصرية.. وأن تشارك فيه الحكومة من أجل تحقيق تقدم حقيقى وملموس وعاجل.
صحيح أن الحوار الوطنى الجارى الإعداد له - حسب المنشور إعلاميًا - سوف يتضمن محورًا اقتصاديًا، ولكن نصيحتى ألا نعتمد على هذا المسار فى تحقيق تقدم مطلوب بشكل عاجل جدا لتشجيع الاستثمار ودعم الصناعة والتفاعل مع الأزمة العالمية الراهنة. قد يكون الهدف من المحور الاقتصادى فى الحوار الوطنى إعادة رسم سياسات طويلة الأجل، وهذا أيضا ضرورى، ولكن الحوار الاقتصادى الذى أقصده والمطلوب بشكل عاجل من نوعية أخرى تحتاج السرعة والبعد عن الإجراءات المعقدة، كما تحتاج التفاعل العاجل بين الحكومة والأطراف المعنية بالنشاط الاقتصادى للخروج بأجندة وطنية، لا للإصلاحات العاجلة.. ولهذا اقترحت أن يكون هذا الحوار بإدارة هيئة الاستثمار واتحاد الصناعات، لأنهما الأقدر فى تقديرى على بلورة النقاش المتناثر حاليا فى المسارات الإعلامية المختلفة إلى برنامج عمل عاجل ومفيد.
يسعدنى أن تستمر حالة الحوار الاقتصادى المفتوح الذى افتقدناه طويلا، ولكن دعونا لا نكتفى بذلك، بل نمضى به ونخرج منه بحلول ومبادرات واتفاق مجتمعى على الحد الأدنى الممكن تحقيقه، حتى نخرج من الأزمة الراهنة سالمين.