كثر الحديث فى الشهور الماضية عن «التوريق»، باعتباره الوسيلة السحرية لحل مشاكلنا الاقتصادية الضاغطة، وخاصة الحاجة لسداد أقساط الديون الأجنبية وفوائدها التى صارت تثقل كاهلنا، وتعطل فرصتنا فى التنمية الاقتصادية، بل تهدد بدفعنا لمزيد من الاقتراض لمجرد مواكبة سداد ما علينا (ما أطلق عليه اقتصاديو اليسار منذ سبعينيات القرن الماضى «مصيدة الديون»).
وفى هذا السياق، ظهرت فكرة «التوريق» لتكون حلًا مبتكرًا - أو كما يقولون «خارج الصندوق» - لتدبير العملة الأجنبية التى نحتاجها لسداد التزاماتنا الحالة. فدعونا إذن نستطلع مفهوم «التوريق»، ثم نفكر معًا فيما إذا كان حلا مناسبا.
«التوريق» هو الآلية القانونية التى يستخدمها من تكون لديه موارد مالية متدفقة فى المستقبل، فيقوم بالتنازل عن هذه المستحقات الآجلة مقابل الحصول على مقابلها فورا. ولنأخذ مثالا فرديا بسيطا: إذا كان لدىَّ شقة مفروشة أقوم بإيجارها مقابل خمسة آلاف جنيه شهريا، فإن هذا معناه أننى خلال عام كامل سوف أحصل على ستين ألف جنيه من إيجار الشقة.. ولكن نظرا لأننى أحتاج إلى خمسين ألف جنيه لغرض عاجل، فإننى أتوجه إلى صديق وأطلب منه إعطائى هذا المبلغ حالا مقابل تنازلى له عن الأجرة الشهرية للعام القادم.
وذات الأمر تقوم به مثلا شركات التطوير العقارى التى تكون لها مستحقات آجلة من مشترى العقارات بالتقسيط، إذ يمكن للشركة أن تتنازل عن هذه المستحقات الآجلة إلى أحد البنوك وتأخذ مقابلها فورا القيمة الحالية لهذه الأقساط.
ولكن ما يجعل الموضوع أكثر تعقيدا هو أن البنك الذى يشترى هذه المستحقات الآجلة من شركات التطوير العقارى لا يريد بدوره أن يحتفظ بها لنفسه، فيقوم بإصدار سندات أو أوراق مالية (ومن هنا تعبير «التوريق») وطرحها فى البورصة لكى يكتتب فيها مئات وربما آلاف المستثمرين، فيسترد البنك أمواله. وفى النهاية، يصبح حَمَلَة السندات هم المستحقين للمبالغ الآجلة.
أما فى حالة الدول، فلو قلنا إن مصر مثلا تفكر فى «توريق» مستحقاتها من قناة السويس للسنوات الخمس القادمة، فإن هذا معناه أننا نتنازل عن العوائد التى يفترض أن تحققها القناة فى ظروف عادية (وليس فى توقيت تهديد الحوثيين للملاحة) مقابل حصولنا فورا على مبلغ كبير يمثل هذه العوائد الآجلة. وكما يمكن «توريق» عوائد قناة السويس، كذلك يمكن «توريق» أى مستحقات آجلة، مثل فواتير الكهرباء والغاز التى تحصلها الشركات الحكومية، بل يمكن «توريق» جزء من الحصيلة الضريبية التى تؤول للخزانة العامة؛ بمعنى أن يقترض البلد مليارات الجنيهات مقابل التنازل عن نصف أو ربع حصيلة الضريبة السنوية.
مسألة قد تبدو معقدة، ولكن خلاصتها أن فردًا أو شركةً أو دولةً تقوم بالتنازل عن مستحقات آجلة مقابل الحصول على قيمتها فورا.
■ ■ ■
إلى هنا ينتهى وصف آلية «التوريق».. فما رأيكم؟
رأيى شخصيًّا أن هذه الفكرة «الخارجة من الصندوق» قد تبدو للوهلة الأولى حلا سحريا يمكّننا من تدبير الموارد لسداد الديون الأجنبية المتزايدة.. ولكن الحقيقة أن لى ثلاثة تحفظات عليها:
التحفظ الأول: أن الوجه الآخر لهذا الحل العجيب هو أن صاحب المستحقات الآجلة سوف يصبح محروما من المورد الذى كان يعتمد عليه. فلو أننى كنت معتادا دفع فواتير مسكنى الذى أعيش فيه من الأجرة الشهرية التى تأتينى من إيجار عقار آخر، فإننى بعد التوريق سأكون محروما من هذا المورد لسنة قادمة.. وكذلك الدولة لو قامت بتوريق جزء من حصيلتها الضريبية للسنوات الخمس القادمة، فإن هذا يعنى أنها ستفقد جزءا من الحصيلة التى كانت تعتمد عليها فى مصروفاتها السنوية المعتادة.
والتحفظ الثانى هو: أن علينا التفكير - فى حالة التوريق الحكومى - فيما سنفعله بالأموال التى نجنيها من توريق مستحقات آجلة. فلو كانت ستتجه إلى مشروعات إنتاجية تأتى بعوائد أكبر مستقبلا لكان الموضوع مفيدا للاقتصاد القومى.
أما إذا استخدمت الحكومة مستحقاتنا الآجلة المضمونة لمجرد سداد ديون ما كان يصح أن تتراكم بهذا الشكل، أو لمزيد من الإنفاق غير المدروس وغير المفيد، فإن هذه كارثة لأنها تعنى ليس فقط المزيد من الإنفاق الضائع وإنما أيضا خسارة مستحقات المستقبل.
والتحفظ الثالث: يرتبط بتوريق عوائد قناة السويس بالذات.. وأرى أنه من الأفضل أن ترفع الحكومة يدها عنه تمامًا؛ لأن للقناة اعتبارات استراتيجية وتاريخية واقتصادية تحتاج للتروى، لا اعتبارها مجرد مصدر عملة أجنبية.
■ ■ ■
ولكن من جهة أخرى، فإننى بتحفظاتى على التوريق لم أسهم فى اقتراح حل لمشكلة الديون المتراكمة علينا.. فما العمل؟
ما رأيكم ألا ننظر كثيرا خارج الصندوق، بل نعود للحلول التقليدية التى لم نستنفدها بعد: زيادة الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير حفاظًا على مستحقات الأجيال القادمة.