بقلم - زياد بهاء الدين
من حوالى عشرة أيام، انتشرت بين المتابعين للشأن الاقتصادى مسودة وثيقة تحمل عنوان «سياسة ملكية الدولة» وصادرة من رئاسة مجلس الوزراء. ومع أنها لم تطرح بعد بشكل رسمى، إلا أن الحكومة صرحت مؤخرا بأنها مسودة مبدئية وسيعقبها نص جديد يتم طرحه قريبا للحوار المجتمعى لمدة ثلاثة شهور.
إعداد المسودة وإطلاقها للنقاش العام أمر يستحق الإشادة والتقدير لأنها تخاطب واحدا من أهم وأدق المواضيع الاقتصادية التى أثارت الكثير من القلق والتحفظ من مختلف الدوائر المحلية والدولية، وهو دور الدولة فى الاقتصاد، وتطرح تصورا واضحا لمحددات هذا الدور، كما أنها تقترح مستهدفات معينة لتخارج الدولة من بعض الأنشطة أو استمرارها فى البعض الآخر، وأخيرا فإنها قواعد الحوكمة والتنافسية الحاكمة لما ستحتفظ به من أنشطة بما يحفظ حقوق المساهمين معها أو المنافسين.
ولأن الوثيقة كبيرة الحجم (٤٨ صفحة) وسوف تتاح فرصة مناقشة تفاصيلها فى الأسابيع القادمة، فسوف أكتفى اليوم بثلاث ملاحظات ذات طبيعة عامة، لعلها تكون مفيدة عند إعداد المسودة التالية:
الملاحظة الأولى تتعلق بنطاق تطبيق السياسة المقترحة، وتحديدا المقصود بمفهوم «الدولة». ملكية الدولة بمفهومها الواسع تتحقق من خلال أشكال مختلفة. هناك الأنشطة والشركات والأسهم المملوكة لوزارات الدولة بشكل مباشر مثل وزارة المالية أو الزراعة، وقد تكون من خلال الهيئات العامة كهيئة البترول، ويوجد أيضا شركات مملوكة وفقا لقانون القطاع العام، ثم شركات أخرى وفقا لقانون قطاع الأعمال العام، وتوجد شركات مملوكة لمؤسسات ذات طبيعة خاصة مثل البنك المركزى والصندوق السيادى وبنك الاستثمار القومى، وشركات وأنشطة مملوكة لجهات سيادية، وأخيرا الملكية غير المباشرة من خلال البنوك وشركات التأمين التابعة للدولة. كل هذه أنشطة تدخل فى المفهوم الواسع للدولة. فهل المقصود بالوثيقة كل ما سبق؟ المسودة تشير، فى أكثر من موضع، إلى «شركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام»، لكن دون أن تصرح بأن نطاقها يقتصر على هذين النوعين من الشركات فقط. لذلك فإن اقتراحى أن تجيب الوثيقة بوضوح عن هذا السؤال الجوهرى وتعرف المقصود بـ«الدولة» التى يجرى تنظيم ملكياتها الاقتصادية حتى لا يثور لاحقا أى لبس أو خلاف فى التطبيق بما يؤثر على مصداقية الوثيقة.
الملاحظة الثانية أن المسودة تتحدث عن «تخارج» الدولة من بعض الأنشطة والقطاعات، سواء بشكل تام أم بشكل جزئى، حسب القطاع الاقتصادى. لكن ما المقصود بـ«التخارج»؟ هل هو بالضرورة البيع لمستثمرين، أى الخصخصة؟ أم أن تعبير التخارج هنا يمكن أن يشمل آليات أخرى لتقليص دور الدولة فى الأنشطة الاقتصادية دون أن يعنى بالضرورة بيع الأصول؟ وأقصد بذلك مثلا تقليص النشاط والانسحاب منه تدريجيا، أو الاحتفاظ بالأصول مع منح القطاع الخاص حق الشراكة أو الإدارة. فلو كان الغرض من التخارج هو «تسييل» الأصول والحصول على أفضل سعر من بيعها - وهذا هدف مشروع - فإن هذا يتطلب البيع أو الخصخصة. أما إن كان الغرض هو خروج الدولة من ساحة المنافسة ومزاحمة القطاع الخاص فى المجالات غير الاستراتيجية أو التنموية، فإن هذا يكون إما بالبيع، أو باحتفاظ الدولة بالملكية مع إسناد إدارتها للقطاع الخاص. وأقترح أن توضح الوثيقة آليات التخارج المقصودة.
أما الملاحظة الثالثة فهى بشأن قائمة الأنشطة التى تنوى الدولة التخارج منها. والحقيقة أنها قد فاجأتنى من حيث طموحها الواسع وشمولها لمجالات عديدة منها أنشطة زراعية وحيوانية وتجارية وفى التشييد وصناعات عديدة معدنية وغذائية وكيماوية ونسيجية ودوائية، وغيرها، خاصة أن الدولة تلتزم بتحقيق ذلك خلال ثلاث سنوات. ونصيحتى ألا يغلبنا الحماس فنلزم أنفسنا بما لا يمكن تحقيقه. صحيح أن الوثيقة - حينما تصدر - لن تكون ذات قوة نفاذ قانونى لأنها تعبير عن سياسة حكومية لا تشريع ملزم، لكنها ستكون مع ذلك ذات أهمية سياسية واقتصادية محليا ودوليا، بما لا يقل عن أهم القوانين، وبما يستحق الحفاظ على مصداقيتها بأى ثمن. لهذا أنصح بالتريث فى تحديد المجالات التى ستنسحب منها الدولة خلال الفترة الوجيزة المذكورة.
ختاما فإن الوثيقة مهمة جدا، وتشير إلى توجه سليم للمستقبل، لكن تحتاج إعادة نظر فى بعض محدداتها الرئيسية.. كما تحتاج لأن تكون أقل تعقيدا لأن السهولة والوضوح مهمان كما أن المرونة فى التطبيق مطلوبة، خاصة فى ظل معطيات اقتصادية متغيرة دائما.