بقلم - زياد بهاء الدين
بغض النظر عما ستسفر عنه مفاوضات اللحظة الأخيرة - الجارية وقت كتابة هذه السطور - بشأن الإفراج عن رهائن إسرائيليين مقابل هدنة مؤقتة، فالأكيد أن عملية الانتقام الجماعية والوحشية التى ارتكبتها إسرائيل ضد أهل غزة ستظل نقطة فارقة فى تاريخنا المعاصر، ولحظة كاشفة عن انهيار المنظومة الأخلاقية والسياسية والقانونية للنظام الدولى الراهن.
أما على الأرض، فإن أثرها سيمتد لسنوات قادمة، فى ظل واقع جديد خَلّفته حرب الإبادة والتهجير التى ارتكبتها إسرائيل وسكتت عنها حكومات الدول الكبرى. واقع أن مليونين وربع مليون فلسطينى كانوا أسرى حتى أسابيع قليلة لأكبر سجن فى العالم، وصاروا بعد العدوان أسرى لأكبر مخيم لاجئين على الأرض. مليونان وربع إنسان على مساحة كانت ضيقة وبها واحدة من أعلى الكثافات السكانية عالميا، فصارت بعد تهجير سكان شمالها إلى جنوبها أكثر كثافة وضيقا، كما باتت محرومة من الكهرباء والمياه والخدمات الطبية والمواد الغذائية، مع هدم بيوتها ومستشفياتها ومرافقها.
صحيح أن التضحية الفلسطينية والصمود البطولى قد أحدثا تحولا هائلا فى الرأى العام العالمى لصالح أهل غزة والقضية الفلسطينية بين شعوب العالم وبما يؤثر ربما على مواقف حكوماتها.. وهذا مكسب سياسى وإنسانى لا يستهان به، وليس لأحد فضل فيه سوى أهل غزة.
ولكنه لن يغير شيئا من الواقع الجديد الذى خلفه العدوان الاسرائيلى. ولو تصورنا حتى زوال كل القيود على إدخال قافلات الإغاثة عبر الحدود المصرية، فلا أظن إمكان إعاشة مليونى شخص بهذه الطريقة لفترة زمنية قد تمتد لسنوات قادمة. يضاف إلى ذلك أن حملات الإغاثة بطبيعتها- ومهما كانت سخية وصادقة- لابد أن تتجه للتباطؤ، ثم النسيان بعد زوال التغطية الإعلامية المكثفة، وتحوّل أنظار العالم لقضايا أخرى.
هناك ضرورة إذن، حتى والعدوان مستمر ووزير الدفاع الاسرائيلى يهدد باستئنافه بمجرد انقضاء الهدنة المؤقتة، للتفكير فيما سيأتى بعد ذلك.
ونقطة البداية هى رفض العودة لما كانت عليه غزة قبل العدوان. فالحياة فى غزة لم تكن مقبولة من الأصل، بل كانت نتيجة مؤسفة لتجاهل العالم والوطن العربى لواقع غير إنسانى ولظروف سياسية واقتصادية ومعيشية بالغة السوء. وإذا كانت الإرادتان، الفلسطينية والمصرية، قد اتفقتا على ضرورة التمسك بالأرض الفلسطينية ورفض مشروعات التهجير المشبوهة.
فإن هذا يؤدى إلى نتيجة واحدة: ضرورة تضافر كل القوى والموارد العربية والمساندة الدولية لإعمار وتأهيل وترتيب أوضاع غزة بعد العدوان، ليس بمنطق الإعاشة والإغاثة، بل بمنطق الإعمار الحقيقى للمدارس والمستشفيات والبنية التحتية والمساكن والمرافق.. وبجانب كل ذلك توفير الظروف التى تجعل غزة منطقة نشاط اقتصادى كفيل بأن يوفر لشبابه فرص عمل، ولسكانه مصدرا للدخل، ولإدارته الموارد المالية اللازمة.
ليس موضوعيا هنا ما إذا كان المستقبل سيكون لصالح دولة أم دولتين، ولا طبيعة السلطة فى غزة والضفة الغربية.. فهذا حوار سياسى قد يستغرق أعواما، كما استغرق من قبل عقودا.. حديثى عن البناء الاقتصادى المطلوب التفكير فيه والتخطيط له عاجلا، والبدء فى توفير موارده، واتخاذ الاستعدادات للبدء فى تنفيذه فى أول فرصة سانحة.
التضحيات الفلسطينية بُذلت بالفعل وكانت جسيمة، ولم تنته بعد. ولكن التفكير فيما هو آتٍ بات ضروريًا كى لا تتحول غزة إلى مخيم كبير للاجئين، ولا تعود كما كانت سجنا مفتوحا ليس فيه مستقبل للشباب، بل منطقة تعمير وإنشاء وبناء مستقبل جديد لشعب دفع ثمنًا غاليًا.