حينما كتبت، الأسبوع الماضى، عن قانون منع تعارض المصالح وظروف صدوره عام ٢٠١٣، كان فى نيتى أن أروى تجربتى مع إعداده وإصداره، ثم اقتراح كيفية تفعيله بالكامل.
ولكن ما شهده الأسبوع الماضى من جدل إعلامى حول الموضوع يدفعنى اليوم إلى التعليق على مضمون القانون ذاته، خاصة فى ضوء ما كشف عنه هذا الجدل من اضطراب فى فهمه، بل فهم فكرة تعارض المصالح وكيفية التعامل معها.
استوقفتنى على وجه الخصوص التعليقات الإعلامية، التى اتخذت من الجدل الدائر مناسبة لكى تتوسع فى دائرة الوزراء الذين اعتبرتهم مخالفين للقانون. وفى هذا الإطار قيل مثلًا إن تولى وزيرتى التخطيط والتضامن رئاسة بنكى الاستثمار القومى وناصر الاجتماعى فيه تعارض للمصالح، وكذلك عضوية عدد من الوزراء فى مجالس إدارات هيئات عامة كالمنطقة الاقتصادية الخاصة ببورسعيد والصندوق السيادى وهيئة التعمير وغيرها.
هذا التوسع، فضلًا عن أنه غير سليم قانونًا، فإنه يضر بقضية النزاهة والشفافية ضررًا بالغًا، فالتوسع فى توجيه الاتهام، فى هذا الموضوع وفى غيره، يؤدى إلى خلط الحابل بالنابل والإيحاء بأن الجميع سواسية فى تجاهل القانون، تمامًا كما يفعل الطالب الذى يضبطه المدرس متلبسًا بالغش فى الامتحان، فبدلًا من أن يدافع عن نفسه، يصرخ قائلًا: «ما كلهم غشاشين». عندئذ تضيع القضية، ويصبح الغش طبيعيًّا، وتسير الأمور كما كانت دون تصحيح. لهذا يهمنى إلقاء الضوء على ضوابط القانون التى تحدد المسموح والغامض.
قوانين تعارض المصالح فى العالم كله لا تمنع، لكن تسعى لمنع كل أشكال تداخل المصالح، بل تضع تعريفًا لها، ثم تميز بين ما يُعتبر منها تعارضًا مطلقًا لا يجوز قبوله تحت أى ظرف، وما يُعتبر تعارضًا نسبيًّا يكفى معه الإفصاح واتخاذ إجراءات معينة لتوقى أضراره.
وهكذا فعل القانون المصرى الصادر عام ٢٠١٣ حينما ميز بين التعارض المطلق الذى يُلزم المسؤول الحكومى إما بالتنازل عن المصلحة الخاصة أو ترك المنصب العام، وبين التعارض النسبى الذى يفرض عليه أن يفصح عن التعارض، ويتخذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون وقوع الضرر (مادة ٣).
على رأس حالات التعارض المطلق، الجمع بين المنصب العام وعضوية مجلس إدارة شركة تجارية خاصة (مادة ٦)، والاستمرار فى ملكية أسهم فى شركات خاصة خاضعة لرقابته (مادة ٧)، وشراء أو الاكتتاب فى أسهم أو حصص جديدة (مادة ٩)، ومزاولة نشاط مهنى خاص (مادة ١٠)، وتقديم خدمات استشارية لجهات خاصة (مادة ١١)، والاقتراض من جهة خاضعة لرقابته (مادة ١٣)، والعمل خلال الأشهر الثلاثة التالية على ترك منصبه لدى أو لحساب جهة خاصة كانت مرتبطة بمنصبه الحكومى (مادة ١٥). هنا يلزم على المسؤول الحكومى أن يختار بين هذا أو ذلك.. بين المنصب الحكومى وبين المصلحة الخاصة لأن الجمع بينهما مخالفة صريحة لا يمكن تجاوزها.
يلزم أيضًا- فى مسألة عضوية مجالس الإدارات بالذات- توضيح أن هناك ثلاثة استثناءات كبرى: الأول أن يكون المسؤول الحكومى معينًا فى رئاسة أو عضوية مجلس إدارة جهة عامة بحكم قانون تأسيسها. والاستثناء الثانى حينما تكون الجهة المعنية تابعة للدولة وليست فيها مصالح خاصة.
والحالتان السابقتان هما ما ينطبق على بنك الاستثمار القومى والصندوق السيادى وبنك ناصر الاجتماعى وهيئة المنطقة الاقتصادية وهيئة التعمير وغيرها، إذ كلها أجهزة تابعة للدولة وأذرع للسلطة التنفيذية ليست فيها مصالح خاصة.
أما الاستثناء الثالث، هو غير مذكور صراحة فى القانون، ولكن يتعين الأخذ به بداهة، فهو حينما يكون المسؤول الحكومى ممثلًا للمال العام فى مجلس إدارة جهة خاصة لأن دوره فى هذه الحالة الدفاع عن مصلحة المال العام، وإن كان يلزم هنا احترام قواعد الملاءمة وما يقتضيه وقار المنصب العام وهيبته.
المسألة إذن فيها الكثير من التفاصيل، وفيها أحيانًا بعض الغموض، ولهذا يلزم عدم التوسع فى توجيه الاتهام دون دراسة وتروٍّ، خاصة فى تمثيل المال العام وفى التعارض النسبى. ولكن من جهة أخرى، فإن حالات التعارض المطلق واضحة وضوح الشمس، ومحددة فى القانون بدقة، لهذا فهى لا تحتمل التفسير، ويتعين احترامها.
وأترك، للأسبوع القادم، تعليقى الأخير.. وهو ماذا ينقص من أجل تفعيل القانون بشكل كامل؟.