بقلم -زياد بهاء الدين
قد لا يبدو الحديث عن الآثار الاقتصادية للعدوان الاسرائيلى على غزة وعن التحديات والفرص والتوقعات حديثا مناسبا بينما الحصار لا يزال مستمرا والقصف يحصد الضحايا بلا هوادة والمذبحة الجماعية التى يتعرض لها أهل غزة لا يبدو لها نهاية رغم هول المأساة الإنسانية والغضب الشعبى العالمى واستدعاء إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
مع ذلك فإنه حديث ضرورى ولابد من الخوض فيه لأنه أيا كان التوقيت الذى سيتوقف فيه العدوان الاسرائيلى المباشر فإن الحجم المروع للدمار الاسرائيلى سيظهر جليا ومعه ضرورة العمل على مسارين متوازيين: الأول هو وضع الآليات اللازمة لمد جسر الدعم الإنسانى العاجل من أغذية ومياه ووقود وإيواء ورعاية صحية للمليونين وربع المليون هم سكان غزة. أما المسار الثانى فهو بدء الإعمار - ولا أقول إعادة الإعمار- لأن قطاع غزة لم يكن أصلا مؤهلا للمعيشة الطبيعية - بما فى ذلك من طرق ومساكن ومدارس ومستشفيات وبنية تحتية وغير ذلك. وبقدر ما كان العدوان الاسرائيلى المباشر - ولا يزال - وحشيا وباهظ التكلفة، فإن آثاره على المدى الأطول ستكون أكثر فداحة إن لم يُحسن إدارة آثاره الاقتصادية والاجتماعية بسرعة وكفاءة.
الحديث إذن عن ملف غزة الاقتصادى ليس مبكرًا.
من جهة أخرى، فإن المبكر هو الاستعجال فى وضع نماذج تحليلية وأرقام وتوقعات لما سيحتاجه إعمار غزة لأن أى توقعات أو حسابات من هذا النوع لن تكون مستندة لمعايير دقيقة أو حتى شبه دقيقة، بل لن تعدو أن تكون ضربا من التنجيم، على غرار الدراسات والتقديرات التى أُعدت على عجل من أجل العرض على مؤتمرات لإعادة إعمار العراق وسوريا واليمن دون جدوى.
دعونا إذن نفكر فى المحددات الأساسية التى يجب أن تؤخذ فى الحسبان عند التفكير فى ملف غزة الاقتصادى لأنها فى المرحلة الراهنة أهم من التقديرات الجزافية، ولأن تداعيات هذه المحددات والاتجاهات العامة على المنطقة العربية ستكون بعيدة المدى وعميقة الأثر.
والمحدد الرئيسى لملف غزة الاقتصادى - فى تقديرى الخاص - يرتبط بالإجابة على سؤال محدد: هل ما سوف تستهدفه جهود الإعمار - حينما تبدأ - سيكون مجرد إعادة بناء غزة كما كانت بحيث تعود سجنا ولكن أصغر، وتستمر معتمدة اعتمادا كاملا على المعونات العربية والدولية، أو على الفتات الوارد من التعامل مع الجانب الاسرائيلى؟ أم أن الوقت قد حان للخروج من هذه الحالة اليائسة ووضع بنية اقتصادية وإنتاجية جديدة لغزة (بغض النظر عن الشكل السياسى وحل الدولة أم الدولتين) فيكون لأهلها مستقبل وأمل. بمعنى آخر، هل سيكون الإعمار القادم فى شكل بيوت ومدارس ومستشفيات فقط، أم إعادة تأهيل للأراضى الزراعية ونظم الرى، وبناء مناطق صناعية، وتشغيل مطار وميناء، وتدريب العمالة، وتوفير التمويل، ووضع آليات قانونية تيسر الإنتاج والتشغيل.
والقول بأن حجم غزة وطبيعتها لا يسمحان بمثل هذا الهدف الطموح فى غير محله لأن مفهوم الموارد اللازمة لإقامة اقتصاد كفء اختلف جذريا ولم تعد الحاجة ضرورية لأرض أو موارد طبيعية أو مساحات شاسعة أو مياه متدفقة.. بل وضوح رؤية وسياسات سليمة وتدريب وتعليم وعزيمة ومعرفة بالقطاعات الاقتصادية التى يمكن أن يكون لها مزايا تنافسية.والحقيقة أن أهل غزة بما خاضوه من معارك ومجابهات وتحديات طوال العقود الماضية، وما ضحوا به فى الحرب الدائرة حاليا، وما أظهروه من قوة وبطولة وقدرة أسطورية على التحمل لن يصعب عليهم أن يبنوا اقتصادا جديدا على الأنقاض التى خلفها العدوان الإسرائيلى.
التحدى لن يكون اقتصاديا، بل سيكون سياسيا.. من الذى سيحكم ويدير قطاع غزة ويتحدث باسم أهله، من من الدول العربية الشقيقة سيساهم فى التمويل المطلوب، وهل تساهم الدول الداعمة لإسرائيل فى الإعمار، هل يكون الإعمار من خلال آليات فيها نزاهة وشفافية أم يدفع الشعب الثمن ويقبضه أصحاب المصالح والنفوذ، باختصار هل نريد لغرة وأهلها أن يخرجوا من المحنة الكبرى منتصرين ومرفوعى الرأس أم ضحايا تحت رحمة الآخرين.
كلها محددات هامة يجب التفكير فيها والاستعداد لها لأن أقل ما يستحقه أهل غزة بعد تضحياتهم التاريخية أن نمهد لهم مستقبلًا يسمح لهم بالعيش الكريم والمستقل والآمن سياسيا واقتصاديا