أمس الأول، وافق ذكرى مرور أربعين يومًا على وفاة أحد رواد القانون الإدارى المصرى والتشريع الاقتصادى الحديث، المرحوم المستشار/ محمد الدكرورى.
وفاته كانت لحظة جامعة لزملائه وأصدقائه وتلامذته- وهم كثر- وحزينة لكل مَن عرفوه وعملوا معه وتعلموا منه. شخصيًّا، أعتبر نفسى واحدًا ممن تعلموا منه الكثير، رغم أننى على عكس غالبية تلاميذه لم أكن من أبناء مجلس الدولة ولا القضاء المصرى، بل عرفته واقتربت منه سنوات طويلة امتدّت من ١٩٩٧ حتى ٢٠١١ خلال عملى فى وزارة الاقتصاد ثم هيئة الاستثمار وأخيرًا هيئة الرقابة المالية.
خلال هذه الفترة، اشتركنا فى دراسة وكتابة العديد من القوانين واللوائح والتعديلات التشريعية فى المجال الاقتصادى، كما قضينا ساعات طويلة فى الحديث والنقاش، أغلبها فى مكاتب وقاعات العمل الرسمية، وبعضها امتد إلى غرفة المعيشة فى منزله بمصر الجديدة حينما كانت متطلبات العمل تستدعى ذلك، أو فى شرفة مسكنه الصيفى بالإسكندرية حينما كان يدعونى إلى استكمال حوار لم ينته.
وكان يلفت نظرى أن زوجته الفاضلة السيدة «كاميليا» لم تكن تمانع من ذلك أو تبدى استياء من اقتحام العمل لمنزلها ومصيفها، بل كانت ترحب ترحيبًا بشوشًا، ربما رضوخًا لحقيقة أن هموم التشريع والقانون صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتها المنزلية.
المستشار الدكرورى- أو «محمد بيه» كما كنا نسميه- من مواليد محافظة طنطا عام ١٩٣٤ وتخرج فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام ١٩٥٥، والتحق بمجلس الدولة فور تخرجه، وبقى مرتبطًا به طوال حياته، حتى بعد تقاعده، كما ظل معتبرًا نفسه من أبناء مدرسة القضاء الإدارى المصرى العريقة ومن سلالة السنهورى وأصحابه ومعتزًّا بهذا النسب المهنى إلى أبعد الحدود.
تعرفت على هذه المدرسة من خلال «محمد بيه»، ليس بالمعنى الأكاديمى، فالمعلومات والدراسات عن مجلس الدولة والقضاء الإدارى متاحة للجميع، بل أقصد روح هذه المدرسة وأصول التشريع وطبيعة تفكير القاضى الإدارى على النحو الذى لا يجد الباحث له مصادر مكتوبة أو مراجع عملية، فهذه «صنعة» أو «حرفة» لا تنتقل بين الأجيال إلا بالممارسة والتعلم والإنصات والخطأ والتصحيح.
ومن خلال العمل مع المرحوم المستشار الدكرورى أدركت الكثير عن هذه المدرسة لأنه كان معلمًا كبيرًا، صبورًا مع الأجيال الأصغر، ومستمعًا جيدًا لما لديهم من اقتراحات وأفكار، ومنفتحًا على ما يجرى فى العالم من تطورات تشريعية وفقهية، ولو كانت خارجة عن المنهج الفرنسى الذى تربينا عليه.
وأذكر مثالًا لذلك، حينما دعانا الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير الاقتصاد آنذاك، إلى كتابة قانون جديد للإيداع والقيد المركزى للأوراق المالية، ولم تكن له سابقة فى مصر ولا العالم العربى، وأتاح لنا التعاون مع أكبر مكاتب القانون الأمريكية والبريطانية لأن الإيداع المركزى للأوراق المالية أكثر تقدمًا وكفاءة فى نظم القانون الأنجلوساكسونية.
وكانت تجربة استحداث مفاهيم قانونية جديدة فى نظامنا التقليدى تجربة رائعة وثرية للغاية. وأذكر هذا المثال ليس للخوض فى تفاصيله القانونية، ولكن لذكر جانب لافت فى شخصية «محمد بيه»، وهو قدرة الأستاذ والمعلم، مهما بلغ به المقام والخبرة، على أن يستمع وينصت ويتعلم بدوره ما يكون جديدًا عليه دون حرج أو تعالٍ، بل بتواضع شديد وفضول حقيقى ورغبة جارفة فى تطويع القوالب التقليدية لمستجدات العصر.
ومن المهم أيضًا فى هذا المقام أن أشير إلى أن مدرسة التشريع المصرية لم تكن مدرسة فردية، كما لا يمكن لأى مدرسة فكرية أن تنهض على جهد شخص واحد. وإذا كان «محمد بيه» قد اجتهد مع أبناء جيلنا فى تطوير التشريعات الاقتصادية المصرية، فإن جانبًا من هذا الزخم كان يرجع إلى احتكامنا إلى لجان مراجعة من كبار مستشارى مجلس الدولة والقضاء المدنى ضمت عمالقة آخرين- بعضهم رحل عن عالمنا وبعضهم أتمنى لهم طول العمر ودوام العطاء- ومنهم المستشارون الأجلاء.
(ومع حفظ الألقاب)، سرى صيام وفتحى نجيب وماهر عبدالواحد وحسن بدراوى وعبدالمجيد محمود، وآخرون لم أعرفهم، ولكن أتاحوا لجيلى أن يتعرف من خلالهم على مدرسة التشريع الوطنية، التى لا تزال على قمة الإنجازات الحضارية المصرية، وفى مقدمة ما نفخر به بين أشقائنا من المحامين والقضاة العرب.
رحم الله المستشار محمد الدكرورى، وسيبقى فى أذهان ووجدان جيلنا رائدًا ومعلمًا وعلمًا من أعلام مدرسة مجلس الدولة العريقة.