يثور الحديث هذه الأيام عن موضوع مهم وشائك هو «حظر تعارض المصالح» لكبار مسؤولى الدولة، وأفضل ما كُتب فيه من وجهة نظرى مقال الصحفى والباحث القانونى المتميز «محمد بصل» فى جريدة «الشروق» السبت الماضى.
الموضوع باختصار يتعلق بما يحظر على المسؤول الحكومى أن يمارسه من أعمال أو يشغله من مناصب فى القطاع الخاص حينما تتعارض مع مركزه العام وواجبه القومى. وأشار الأستاذ محمد بصل إلى المادة السادسة من قانون منع تعارض المصالح الصادر عام ٢٠١٣، والتى تحظر على المسؤول الحكومى أن يجمع بين منصبه الرسمى وعضوية مجلس إدارة شركة خاصة.
على أن المقال والموضوع المثار رجعا بى لذكريات سنوات قريبة حينما قمت بصياغة القانون المذكور، ثم التقدم به لمجلس الوزراء فى نهاية ٢٠١٣ خلال عملى نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للتعاون الدولى.. وقد أقره مجلس الوزراء وقتها بعد نقاش مفصل، ثم أحاله للسيد رئيس الجمهورية المستشار عدلى منصور (لم يكن فى مصر برلمان فى هذا الوقت)، فأصدره ونُشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ ١٣ نوفمبر٢٠١٣ وصار نافذًا من الشهر التالى.
وأكتفى بالإحالة لمقال «محمد بصل» القيّم لمن يريد الاطلاع على التفاصيل، وإنت كان للقانون خلفية، فأود روايتها اليوم لعلها تفيد المهتمين بالموضوع وبهذه الفترة.
فقد بدأت فكرة إصدار قانون لمنع تعارض مصالح كبار المسؤولين الحكوميين فى أحاديث متكررة بينى - حينما كنت رئيسا لهيئة الاستثمار من ٢٠٠٤ إلى ٢٠٠٧ - وبين الدكتور محمود محيى الدين وكان وزيرا للاستثمار. وكان الجدل مستمرا ومتصاعدا خلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل حسنى مبارك حول دخول العديد من رجال الأعمال فى العمل الحكومى والمناصب الوزارية فيما وصف وقتها بظاهرة «تزاوج المال والسلطة». واشتدت الشكوى شعبيا وتصاعدت. وكنت قد قمت بالفعل بإصدار دليل عدم تعارض المصالح للعاملين بهيئة الاستثمار عام ٢٠٠٥ ليكون ميثاقًا لها ونموذجًا للهيئات العامة الراغبة فى تبنى هذا الاتجاه، كما شاركت فى إعداد تعديل قانون البنوك - بطلب الدكتور فاروق العقدة محافظ البنك المركزى الأسبق - لاستحداث مواد منع تعارض المصالح.
ومضت السنوات، وانتهت فترة عملى بهيئة الاستثمار فى يوليو ٢٠٠٧، وبقيت خارج العمل الحكومى سنتين حتى عدت لتأسيس ورئاسة الهيئة العامة للرقابة المالية المنشأة حديثا من يوليو ٢٠٠٩ حتى استقالتى بعد ثورة ٢٥ يناير بشهور قليلة، من أجل خوض المعترك السياسى والترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة.
خلال العامين اللذين كنت فيهما بعيدا عن العمل الحكومى، عاود الدكتور محمود الاتصال بى وطلب منى دراسة الموضوع واقتراح تشريع عام للبلد. ورحبت بذلك، وقمت بعمل دراسة مقارنة عن آليات تنظيم هذا الموضوع فى عدة دول، ثم صياغة مشروع قانون يمكن البدء فى مناقشته. وفى وقت ما - لا أتذكر التاريخ بالضبط - بين عامى ٢٠١٨ و٢٠١٩ أخبرنى الدكتور محمود بأن مشروع القانون جرى عرضه بالفعل على مجلس الوزراء، ولكن أضاف باقتضاب أنه بعد المناقشة تم إرجاء نظره لأجل غير معلوم.
واعتقادى شخصيًّا أن الدولة فوتت وقتها فرصة التعامل مع هذه الإشكالية بشكل قانونى يتميز بالمصداقية والشفافية ويُخضع الوزراء والمسؤولين الحكوميين لقواعد واضحة للفصل بين مصالحهم وأنشطتهم الخاصة وبين مناصبهم العامة، ولعله كان قد ساعد على تجنب أخذ الشرفاء من المسؤولين الحكوميين بجريرة الفاسدين بسبب غياب القواعد الواضحة والملزمة.
نعود لقانون تعارض المصالح.. فى أعقاب ثورة يناير وبعد استقالتى من رئاسة هيئة الرقابة المالية استعدادا للدخول فى العمل الحزبى وخوض الانتخابات البرلمانية، قمت مع مجموعة من الأصدقاء بإطلاق «المبادرة المصرية للوقاية من الفساد»، وجمعت صحفيين وقانونيين وأكاديميين.
وكان هدفنا التأكيد على أنه بينما المجتمع والشارع الثورى مهتمون بملاحقة مسؤولى الحقبة المباركية، فإن الأهم هو وضع قواعد وأطر واضحة للوقاية من الفساد مستقبلا. وطبعا كان تنقيح وضبط مشروع قانون حظر تعارض المصالح أول أعمالنا، وقمنا وقتها بنشره إلكترونيا حتى يكون متاحا لمن يرغب فى تبنيه أو الاهتمام به.
وتداعت الأحداث، وجاء الحكم الإخوانى ومضى، وصارت الثورة ثورتين، ورحبت بالانضمام لحكومة ٣٠ يونيو، فكان على بالى ضرورة انتهاز الفرصة وعرض هذا القانون الذى ظل حبيس الأدراج لأكثر من سبع أو ثمانى سنوات. وبالفعل، قمت بعرض مشروع القانون، واستغرقت مناقشته جلستين فى مجلس الوزراء، وتم اعتماده مع بعض التعديلات الطفيفة، ثم صدوره فى نوفمبر ٢٠١٣ على نحو ما ذكرت.
فهل حقق القانون ما كان مأمولا منه؟
لا أظن ذلك، بل ما زلتُ أرى ضرورة إعادة الاهتمام به واستكماله، وإصدار الضوابط واللوائح المكملة له، وتشكيل اللجان المنصوص عليها فيه، كى يصبح مفعلا بشكل كامل.. وهو ما أعود إليه الأسبوع القادم.