بقلم: زياد بهاء الدين
مع حلول السنوية الأولى لبدء الحرب فى غزة، كانت الآمال معقودة على قرب تسوية لإنهاء العدوان الاسرائيلى على غزة وتسهيل عمليات الإغاثة وفتح باب إعادة الإعمار. ولكن بدلًا من ذلك فتحت إسرائيل جبهة لبنان على مصراعيها، وبدلًا من حرب واحدة صارت حربين، وانضم للضحايا خلال أسبوع واحد ألف قتيل مدنى فى لبنان ومليون مهجر أو لاجئ قبل أن يبدأ الاجتياح البرى المرتقب.
إسرائيل تستغل الفرصة الفريدة لتضافر عدد من الظروف الدولية والإقليمية ليس فقط لضرب البنية التحتية لحماس وحزب الله، ولكن أيضًا لإعادة ترتيب الأوضاع السياسية فى المنطقة:
دوليًا، فإن العالم الغربى مشغول بحرب روسيا- أوكرانيا التى تسارعت وتيرتها فى الشهور الماضية، وبمشاكل اقتصادية واجتماعية أوروبية وإعادة تشكيل أجهزة مجلس الوحدة الأوروبى، وبالقلق من نمو النفوذ الصينى دون اتفاق على سياسة واحدة لمجابهته، وطبعًا بالانتخابات الأمريكية التى لن يجرؤ أى من أطرافها على محاسبة إسرائيل.
وإقليميًا، فإن الوطن العربى لم يكن فى وقت أكثر انقسامًا وتشتتًا مما هو عليه الآن، بين بلدان تشهد حروبًا أهلية وأخرى تعيد بناء كياناتها التى تفككت فى العقدين الماضيين، وأخرى تعانى من أزمات اقتصادية واجتماعية تستحوذ على كل اهتمامها، ودول تبحث عن فرصة مناسبة لإقامة جسور التواصل والتعاون مع إسرائيل.
أما فيما يخص الرأى العام العربى فهو صامت وساكن حيال الاعتداء الإسرائيلى على غزة ثم لبنان. وقد كنت أميل إلى الاعتقاد بأن الغضب موجود والرغبة فى التعبير عنه قائمة، لا يمنعها إلا القوانين المنظمة لحريات التظاهر والعمل الحزبى والنقابى فى مختلف أنحاء الوطن العربى. وأظن أن قدرًا من هذا صحيح بالفعل. ولكن مع الوقت بدأت أخشى من أن يكون غياب التعبير عن هذا الغضب يرجع لأسباب أعمق من ذلك. هناك ربما يأس فى الشارع العربى من إحداث تغيير جذرى وعادل، وهناك فقدان للرغبة فى الانخراط فى أى نشاط سياسى أو شعبى، وهناك انقسام حقيقى ومكتوم فى الرأى حيال منظمتى حزب الله وحماس، وهناك انشغال بمشاق ومتاعب الحياة، كلها عوامل جعلت الشارع العربى يغضب ويحزن ولكن لا يتحرك تعبيرًا عن ذلك.
وأخيرًا، فإن رد الفعل الإيرانى الأخير لم يحقق حتى الآن إلا إعطاء إسرائيل المبرر العسكرى والغطاء السياسى للاستمرار فى عدوانها على لبنان دون اعتبار للضحايا المدنيين، ومنح رؤساء الدول الكبرى- وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا- الفرصة لتجديد التزامها بكل ما يضمن لإسرائيل أمنها وسلامتها وحقها فى الدفاع عن نفسها.
وقد استغل المتحدث العسكرى الإسرائيلى هذا الموقف أفضل استغلال إذ لم يتوقف خلال الأيام الماضية عن ترديد أن إسرائيل تحارب بمفردها على عدة جبهات وتواجه أعداء متنوعين، سواء حماس أم حزب الله أم القوات الحوثية أم غيرها. وهذه الصورة الذهنية لواحة الديمقراطية والحداثة الواقعة فى محيط من التخلف والتطرف والعداء للسامية هى بالضبط ما تسعى إسرائيل دومًا لتأكيده وتغذيته كى يظل لها مطلق الحرية فى ارتكاب ما يحلو لها من العدوان والحصار والاستعمار دون مساءلة أو حتى لوم.
صحيح أن فظاعة العدوان الإسرائيلى على غزة بالذات أبرزت بعض العناصر الداعمة للحق الفلسطينى، وعلى رأسها الحركة الشبابية والطلابية العالمية التى اكتسبت زخمًا واتساعًا غير مسبوق، ومحاولات محاسبة إسرائيل أمام المحاكم الدولية، وبروز مواقف حاسمة لبعض البلدان الأوروبية (أيرلندا والبرتغال وإسبانيا بالذات)، إلا أن إسرائيل تعول هنا على عنصر الوقت، وعلى استيعاب الضغوط السياسية والدبلوماسية لحين إنهاء العمليات العسكرية ثم توجيه الاهتمام والموارد الإعلامية والسياسية والمالية نحو إعادة توجيه الرأى العام الشبابى لوجهة مختلفة غير معادية.
ولكن برغم ما سبق، وبرغم ما يبدو على السطح من أن إسرائيل قد نجحت فى استغلال مجموعة الظروف والعوامل التى أشرت إليها كى تحقق كل ما كانت تطمح إليه فى غزة ولبنان، إلا أن المفارقة فى هذا المشهد المأساوى أن كل هذا لم يحقق لإسرائيل النصر الذى تحلم به ولن يحققه. فحجم الدمار والقتل والتهجير والتجويع فى غزة بالذات أكبر من أن يُنسى، والتغير فى الرأى العام الشبابى العالمى أكثر عمقًا من مجرد مظاهرات واعتصامات عابرة، وحالة الدمار الشامل التى خلفها العدوان الإسرائيلى قد تقضى على البنية التحتية لمنظمتى حماس وحزب الله ولكنها لن تغلق منابع العنف بل ستضيف إليها طاقة جديدة، وإسرائيل ستجد نفسها بعدما تنتهى الحروب فى عزلة أكبر وفى حاجة لإعادة تقييم ما جرى وتقدير ثمن ما ارتكبته من جرائم بحق الإنسانية.