بقلم:زياد بهاء الدين
أكدت تصريحات رسمية وإعلامية أخيرة تَقدُّم المفاوضات مع صندوق النقد الدولى، بهدف التوصل إلى اتفاق جديد لمساعدتنا على مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد صرح رئيس لجنة الموازنة بمجلس النواب بأنه يتوقع نجاح المفاوضات قريبا وحصولنا على قرض يتراوح بين ٥ و٧ مليارات دولار قبل نهاية العام.
مجرد ذِكر اسم الصندوق يثير فزعًا وتوجسًا من «أجندة» سرية تجلب موجة جديدة من ارتفاع الأسعار على نحو ما حدث فى ٢٠١٦.. ولكن من جهة أخرى فإن العديد من الخبراء والمتخصصين يؤكدون أن الاتفاق المرتقب مع الصندوق هو المخرج الوحيد من أزمتنا الراهنة، ودونه فلا أمل.
لهذا اسمحوا لى فى هذا المقال بطرح بعض الأفكار عن علاقتنا بالصندوق ودوره بشكلٍ عام لكى لا تختلط الحقائق بالأساطير، لا مدحًا ولا قدحًا.
أما عن «الأجندة» السرية، فإن تطورًا كبيرًا طرأ على المنظمات المالية الدولية عمومًا - منها صندوق النقد - خلال العقود الماضية، وخاصة فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى وتحول غالبية الكتلة الشرقية إلى الاقتصاد الحر والديمقراطية.
من بعدها، صارت هذه المنظمات أكثر وضوحًا وشفافية فى تعاملاتها مع الدول المقترضة، لهذا فما يتوقعه صندوق النقد الدولى من مصر ليس سرًا، بل أمر معلوم ومنشور فى بياناته الرسمية وعلى صفحته الإلكترونية، وآخرها تقرير مجلس مديريه الصادر الأسبوع الماضى (٢٦ يوليو ٢٠٢٢)، حيث أكد ضرورة قيام مصر بتطبيق «سياسات إصلاحية أكثر عمقًا من أجل تمكين القطاع الخاص من النمو، وتحسين الحوكمة، وتقليص دور الدولة».
وهذه التوجهات العامة لا تزعجنى شخصيًا، لا من جهة تشجيع القطاع الخاص، ولا إضفاء المزيد من الحوكمة والشفافية فى إدارة شؤوننا الاقتصادية، ولا الحد من الدور الذى تقوم به الدولة.. المشكلة مع ذلك ليست فى هذه المبادئ وإنما فى تفاصيلها. وهنا يأتى دور المفاوض المصرى وأهمية ما يتوصل إليه من برامج تنفيذية وشروط للحصول على القرض بما يحافظ على التوازن الصعب بين تصحيح الهيكل المالى للدولة، وحماية الطبقات متوسطة ومحدودة الدخول من الآثار السلبية الناجمة عن هذا التصحيح، وهو توازن بالغ الدقة والصعوبة.
ولكن.. هل كون البرنامج المقترح من الصندوق معروفًا، وفى مجمله إيجابى، يعنى أن تنفيذه سوف يحل كل مشاكلنا ويخرجنا من الأزمة الراهنة؟.. بالتاكيد لا، بل الأمر يتوقف علينا تمامًا.
فـ«صندوق النقد الدولى» يختص فى الأساس - حسب تكوينه ودستوره - بتحقيق الاستقرار المالى والاقتصادى العالمى، ومساعدة الدول على بناء اقتصادات قوية عن طريق دعم التعاون النقدى بينها، وتنمية التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسواق الصرف العالمية.
ومع أن الصندوق بات فى العقود الأخيرة أكثر انتباها للجوانب الاجتماعية والبيئية، إلا أن تفاعله مع الحكومات يظل من منظور المساندة فى تحقيق الاستقرار النقدى والمالى والاقتصادى بوجه عام ودون الدخول فى تفاصيل الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التى تؤثر فعليا على معيشة المواطنين. هذه مسؤولية الحكومة التى عليها إدارة الاقتصاد بكل مكوناته وسياساته وبرامجه.
من جهة أخرى، فإن برنامج الصندوق الرامى لضبط الهيكل المالى للدولة لا يمكن أن يحقق تحسنًا فى حياة الناس إن لم تواكبه سياسات لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولنا فى تجربة عام ٢٠١٦ عِبرة، فقد أبرمت مصر وقتها اتفاقًا مع الصندوق، وقامت بتنفيذ إصلاحات مهمة وصعبة لتحرير سعر الصرف وتطبيق الضريبة المضافة وتخفيض دعم الطاقة، وكانت سياسات فى تقديرى سليمة تماما. ولكن ما حدث أن الحكومة لم تبنِ عليها ولم تستكملها ببرامج تجذب الاستثمار وتشجع القطاع الخاص على الإنتاج كما كان مأمولًا، فكانت النتيجة أن الناس دفعت الثمن مرتين: مرة فى ارتفاع الأسعار الذى جلبته الإصلاحات المالية الضرورية، ومرة ثانية فى عدم زيادة الاستثمار والتشغيل والتصدير الذى كانت فرصته سانحة.
الخلاصة أننا فى الغالب مقبلون على برنامج جديد مع الصندوق، خطوطه العريضة معروفة ولا بأس بها، ولكن تفاصيلها هى الحاكمة. والمهمة الملقاة على عاتق مفاوضينا ثقيلة. والاتفاق لن يكون نهاية المطاف ولا حلًا لأزمتنا، بل الأهم هو ما يأتى بعده من إصلاح حقيقى لمناخ الاستثمار، وتشجيع للصناعة، ودعم للإنتاج المفيد، وتصحيح أولويات الإنفاق العام، والاستمرار فى برامج الحماية الاجتماعية.