أصيب الرأى العام الأسبوع الماضى بصدمة صدور حكم التحكيم الدولى ضد مصر بمبلغ مليارى دولار تعويضا لشركة إسبانية عن مخالفة شروط توريد الغاز الطبيعى إلى مصنعها فى دمياط. والمبلغ المقضى به جسيم بكل المعايير، أبسطها أنه يبلغ بحسبة بدائية نحو سبعة أضعاف الحصيلة المتوقعة للضريبة العقارية هذا العام بكل ما أثارته من صخب وجدل.
ولكن خطورة الحكم لا ترجع فقط لجسامة التعويض، وإنما لأنه ليس الأول وقد لا يكون الأخير فى ضوء الدعاوى التحكيمية الدولية المقامة ضد مصر فى السنوات الماضية.
ولهذا فليس من المبالغة وصف هذا الموضوع بأنه يمثل قضية أمن قومى اقتصادى. لهذا فبدلا من الانشغال بتوجيه أصابع الاتهام لجهات غير مسئولة عن هذه النتيجة، فإن الاجدر هو التفكير فيما يمكن عمله مستقبلا لتوقى تكرار مثل هذه الأحكام.
بداية فإن الحكم صدر عن المركز الدولى لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولى والمعروف باسم «ICSID». ولكن برغم تبعية المركز اداريا للبنك الدولى منذ إنشائه عام ١٩٦٦، إلا أن البنك ليس طرفا فى النزاع مع مصر ولا مسئولا عن قرارات المركز وأحكامه لأن تلك الأحكام تصدر عن هيئات تحكيم مشكلة من خبراء قانونيين مستقلين، يختارهم أطراف النزاع دون تدخل من المركز. وفى الحكم الأخير فقد تشكلت هيئة التحكيم من ثلاثة أعضاء، اثنان بريطانيان والثالث أمريكى، وقد صدر حكمها بأغلبية عضوين بينما أبدى الثالث تحفظه على الحكم.
من جهة أخرى فإن إلقاء اللوم فى كل مرة تخسر مصر فيها تحكيما دوليا على هيئة قضايا الدولة ــ باعتبارها محامى الدولة ــ ليس سليما. فهيئة قضايا الدولة تشبه فى هذا الموقف حارس المرمى الذى يجد نفسه مسئولا عن كل هدف يخترق مرماه لأنه خط الدفاع الأخير بغض النظر عن أخطاء مدافعى الفريق ولاعبى خط الوسط. كذلك هيئة قضايا الدولة فإنها تتحمل وزر كل خسارة وكل حكم دولى يصدر ضد مصر رغم أنها ليست مسئولة لا عن إبرام العقود مع المستثمرين، ولا عن مخالفتها، ولا عن ضعف المستندات والدفوع التى كان يمكن أن تدعم موقفنا.
الخسارة المتكررة لمصر فى محافل التحكيم الدولية، وهذا تعليق عام وليس على الحكم الأخير وحده، تأتى فى تقديرى من ثلاثة مصادر رئيسية: أولا، أن اختصاص مراكز التحكيم الدولية بهذه الدعاوى يجد مصدره فى اتفاقيات الاستثمار الثنائية التى أبرمتها مصر مع العديد من الدول، بما فيها الاتفاقية مع اسبانيا عام ١٩٩٢.
وهذا فى حد ذاته ليس غريبا ولا معيبا لانها اتفاقات تساهم فى فتح مجالات التعاون والاستثمار بين البلاد. المشكلة أن مصر واحدة من أكثر بلدان العالم ابراما لاتفاقيات الاستثمار الثنائية، وفى حالات منها مع دول لا تمثل لنا أهمية اقتصادية وبالتالى فإن مثل هذه الاتفاقات تلزمنا بالتحكيم الدولى دون أن يكون لها نفع حقيقى. وهذا وضع بحاجة لمراجعة شاملة وعاجلة. وقد سبق أن استعانت هيئة الاستثمار عام ٢٠٠٦ بخبرة الامم المتحدة لمراجعة هذه الاتفاقات، والنظر فيما يتم تجديده منها وما لا يتم، وتحسين قدرتنا التفاوضية بشأنها، وهو جهد يمكن استئنافه.
ثانيا، أن الاهتمام بتشجيع الاستثمار الأجنبى ومنحه المزايا والضمانات مطلوب من أجل تحقيق النمو الاقتصادى وزيادة التشغيل والتصدير وجذب التكنولوجيا. ولكن التشجيع لا ينبغى أن يتحول إلى اندفاع لابرام أى اتفاقات والالتزام بعقود غير ممكنة التنفيذ والتنازل عن حقوق البلد. لهذا فإننا بحاجة لمراجعة التصور السائد بأن كل استثمار اجنبى وكل اتفاق يجرى توقيعه امام كاميرات التلفزيون خير مطلق، بل يلزم النظر إلى مضمون هذا الاستثمار وحساب تكلفته وعائده على البلد. وما سبق يرتبط بقضية التحكيم ارتباطا مباشرا لأن التسرع فى إبرام اتفاقات مع المستثمرين دون دراسة كافية يفتح باب الأحكام الدولية والتعويضات.
ثالثا وأخيرا فإن دعاوى التحكيم الدولية تستغرق وقتا طويلا إلى أن يصدر فيها حكم نهائى. والدعوى التى خسرتها مصر الأسبوع الماضى مرفوعة أمام مركز التحكيم من فبراير ٢٠١٤. وخلال السنوات التى يستغرقها نظر هذه الدعاوى فإن الجهات الحكومية المعنية غالبا ما يتضح لها أى منها يمثل خطورة لأن الموقف القانونى
المصرى فيها ضعيف وأيها يمكن الدفاع عنه. وهنا يلزم اتخاذ موقف حاسم وسريع، فإن كان الموقف المصرى قويا نسبيا فلا شك فى أهمية الدفاع عنه حتى النهاية وبذل كل جهد لرفض المطالبة بالتعويض. أما فى الحالات التى يكون فيها موقفنا ضعيفا ويرجح معه الخسارة فإن الأفضل هو عدم انتظار صدور الحكم بل التفاوض على تسويته وديا لأن ما يقبله الطرف المدعى اثناء نظر الدعوى يقل بالضرورة عما يمكن أن يرضى به حينما يصدر لصالحه حكم نهائى. وفى تقديرى أن هذه الحقيقة ليست غائبة عن المسئولين فى مصر، ولكن أتصور ان ثقافة الخوف من اتخاذ قرار التسوية ومن الاتهام بإهدار مال الدولة تدفع لانتظار حكم التحكيم حتى ولو كان موقف مصر فيها ضعيفا والخسارة مرجحة.
ملف التحكيمات الدولية والتعويضات المحتملة ملف خطير، والخبرات المصرية فى هذا المجال داخل الحكومة وخارجها ليست قليلة، والاستعانة بخبرات اجنبية ليس عيبا.
ولكن يلزم اتخاذ قرار سياسى بالتصدى له بشكل حاسم عن طريق مراجعة الاتفاقات الاستثمارية التى أبرمتها مصر فى العقود الماضية، والتروى فى منح مزايا وضمانات استثنائية وإبرام عقود غير مدروسة العواقب، والإنصات لاصحاب الخبرات لتحديد ما يلزم تسويته وديا مع المستثمرين بسرعة قبل أن يقع علينا سيف التعويضات الباهظة مرة أخرى.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع