توقيت القاهرة المحلي 23:33:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصعيد الذي يجهلونه

  مصر اليوم -

الصعيد الذي يجهلونه

بقلم : زياد بهاء الدين

ليس فى نيتى التعليق على البرنامج التليفزيونى الذى اتهم أهل الصعيد بأنهم يُكثرون من الإنجاب بغرض التكسُّب من تشغيل أبنائهم فى الورش ومن «شحن» بناتهم للعمل فى المنازل، فما قيل فى البرنامج ليس جديرًا حتى بالانتقاد، والصعايدة أسمعوا مصر كلها غضبهم، والقناة المسؤولة اعتذرت عن هذا الخطأ المهنى الجسيم. لهذا أدعو الأهل فى الصعيد إلى طى هذه الصفحة حتى لا تكون فتنة فى البلد، ولأن قبول الاعتذار من شيم الكرماء.

الذى يستحق التوقف هو ما عبرت عنه هذه الواقعة المؤسفة من جهل بالمجتمع، وانحياز تجاه سكان الريف بشكل عام والصعيد بصفة خاصة، أخشى أن يكونا أوسع انتشارًا فى مجتمعنا حتى بين فئاته المتعلمة.

من أين يأتى هذا الانحياز القبيح؟ هل من سوء التعليم واعتماده على مقررات جامدة تشبه أدوات الحشد والتعبئة ولا تعبر عن إنسانية وتنوع وثراء مجتمعنا، أم من المسلسلات التليفزيونية- ما عدا القليل منها- التى تكرر أنماطًا مستهلكة وغير واقعية للحياة الريفية «الكاريكاتورية»، أم أن الموضوع أكثر تعقيدًا وعمقًا ووراءه انحياز ثقافى راسخ ضد الريف وسكانه والنظر إليهم باعتبارهم عبئًا على المجتمع؟ أترك الرد للمتخصصين فى علم الاجتماع، وأكتفى- بحكم انتمائى العائلى لأسيوط وارتباطى بالصعيد خلال العشرين عامًا الماضية- بعرض بعض الحقائق.

الصعيد يعانى بالتأكيد من الفقر. ولكن الحقيقة أن الفلاح المصرى، لعقود وقرون طويلة، كان مصدر الفائض الاقتصادى الأساسى، الذى أتاح للبلد أن ينمو ويتقدم ويستهلك ويبنى المدن ويأخذ بأسباب التصنيع، وأن المزارعين خاصة فى الصعيد لايزالون يزرعون الأرض مقابل عائد لا يساوى الجهد ولا التكلفة المرتبطة بالزراعة لأسباب خارجة عن إرادتهم. هذه الأسباب تتعلق بتسعير الموارد والمدخلات والحاصلات التقليدية، وبالسيطرة على الأسواق واحتكارها. ولو نجحنا فى إدارة سياستنا الزراعية بشكل أكثر عدالة تجاه المزارعين لما تفاقمت مشاكل الريف الاقتصادية والاجتماعية، ولما كان عبئًا على البلد بل مصدر خير وعطاء اقتصادى وإنسانى كما كان عبر تاريخ مصر الطويل.

وشباب الصعيد والريف بشكل عام يهاجرون بالفعل كلما أُتيحت لهم الفرصة إلى القاهرة والخليج وليبيا، ومن وجه بحرى إلى أوروبا. ولكن الحقيقة أن سبب الهجرة عدم توافر فرص بديلة للعمل والعيش الكريم فى ظل ندرة الأرض الزراعية وقلة الاستثمار الصناعى والخدمى. ولو تم تطبيق سياسات تنموية واستثمارية أكثر انحيازًا إلى الريف وتوافرت معها أسباب العيش المعقولة لما اختار الشباب أن يتركوا منازلهم وعائلاتهم ويعيشوا فى غربة يكرهها المصريون بالفطرة على عكس كثير من الشعوب الأخرى المهاجرة بطبيعتها.

وسكان القاهرة يشتكون من غزو أبناء الريف والصعايدة لأحيائهم. ولكن الحقيقة أن ما تجرى الإشادة به من بناء وتعمير ومعمار فى المدن والمجتمعات الجديدة والمنتجعات والمناطق الصناعية ما كان ليتحقق لولا الهجرة الداخلية لأبناء الريف والصعيد بصفة خاصة، واستعدادهم للعمل فى ظروف شاقة ومقابل أجور متواضعة وبجلد وصبر وعزيمة لا يقدر عليها غيرهم.

والعائلات فى الريف والصعيد بالذات كثيرة الإنجاب بلاشك، وهذه مشكلة حقيقية تهدد التنمية، ولا مجال للتهوين منها. ولكن الأكيد أن هذا ليس بغرض «الاسترزاق» من الأبناء والبنات، بل لأن الثقافة السائدة لاتزال تعتبر الأبناء مصدرًا للقوة والأمان، وتحديد النسل إنكارًا للنعمة. هذه ثقافة معيبة وسلوك خاطئ وعادات بالغة الضرر بأصحابها وبالمجتمع. ولكن التعامل معها يكون بالتعليم والتوعية والإعلام المستنير والخدمات الطبية والسياسة السكانية الواعية وليس بالاستهزاء والتعالى على أهل الريف.

الحقيقة أن مشاكل الصعيد الاقتصادية والاجتماعية عديدة ومعروفة، ولست بصدد إنكارها أو تصوير المجتمع الصعيدى كما لو كان مثاليًا. بل الاعتراف بما يعانى منه الصعيد من فقر وسوء الخدمات العامة وانتشار العادات الاجتماعية السلبية هو المدخل الضرورى لإصلاحها ولحث الدولة على توفير الموارد لها. ولكن التعامل معها يجب أن يستند إلى معلومات صحيحة وتقييم موضوعى لأصل المشاكل وأسبابها ونقاش واعٍ حول البدائل والأولويات وليس إلى الكلام المرسل والانطباعات والخرافات المتداولة.

لا أحب الحديث عن الصعيد و«الصعايدة» كما لو كانوا طائفة مختلفة من البشر- مدحًا أو قدحًا- لأن هذا كلام فارغ ومسىء للجميع وضار بالوحدة الوطنية. نحن أبناء وطن واحد والبشر متساوون، ولهذا فالانتباه إلى مشاكل جنوب مصر ومنحها الأولوية التى تستحقها يجب أن يكون مطلبًا وطنيًا يخصنا جميعًا أيًا كان موطن عائلاتنا الأصلى أو المختار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصعيد الذي يجهلونه الصعيد الذي يجهلونه



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:57 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش اللبناني يعلن مقتل جنديين في ضربة إسرائيلية
  مصر اليوم - الجيش اللبناني يعلن مقتل جنديين في ضربة إسرائيلية

GMT 07:54 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F
  مصر اليوم - علاج جيني مبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 11:41 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025
  مصر اليوم - روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 12:07 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الجبلاية تستقر على خصم 6 نقاط من الزمالك

GMT 17:00 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

موعد إجراء قرعة كأس العالم 2018 والقنوات الناقلة

GMT 02:32 2020 الثلاثاء ,21 تموز / يوليو

سلطنة عُمان تسجل 1739 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 07:10 2020 الثلاثاء ,25 شباط / فبراير

رشا مهدي تعلق على انسحاب الزمالك من مباراة القمة

GMT 19:06 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

الجونة يضم حارس الأهلي عمر رضوان رسميًا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon