بقلم : زياد بهاء الدين
العالم كله يستعد للموجة الثانية من وباء «كورونا». لا يعنى هذا أنها موجة قادمة لا محالة، بل قد يكون توقعها والإكثار فى الحديث عنها نوعًا من التحوط وتوقى اللوم والمحاسبة أكثر مما تبرره المعرفة العلمية السليمة. ولكن فى جميع الأحوال علينا أن نستعد لها فى مصر كما يستعد العالم. ولأن الطب والصحة العامة ليسا مجالى، فدعونى أعلق على الجانب الاقتصادى وكيفية الاستعداد له.
الأكيد أن مصر كانت خلال الموجة الأولى، والحمد لله، أفضل حالًا من غيرها بكثير. فحتى لو اعتبرنا أن عدد الحالات المعلنة رسميا يقل عن الواقع، لأن الناس لا تبلغ عن كل الحالات، ولأن كثيرًا منها لا يُكتشف أصلًا، فإن عدد الوفيات- مع كون كل منها يمثل خسارة فادحة لأسرته وأصدقائه ولا يمكن الاستهانة بها فرديًا- بالضرورة أكثر دقة من عدد الإصابات، وهذه كانت للآن حوالى نصف المعدل العالمى.
ولكن من جهة أخرى، فإن التداعيات الاقتصادية للموجة الأولى كانت ولاتزال فادحة. الخسائر التى تعرضت لها قطاعات السياحة، والخدمات الترفيهية، والسلع غير الأساسية، والنقل الخاص، والصناعات التصديرية.. وغيرها، طالت المستثمرين والمساهمين والعاملين ولاتزال بعيدة عن الرجوع لمستويات ما قبل الوباء. وتأثر الدولة بانخفاض مواردها السيادية والاستثمارية لا يُستهان به، وعلى رأسها الانخفاض الحتمى فى الحصيلة الضريبية من جراء تباطؤ النشاط الاقتصادى. هذه الآثار كلها قد تتكرر مرة أخرى إذا ما أصابتنا الموجة الثانية. والتحدى الاقتصادى الحقيقى أن تكرار ذات الآليات التى انتهجتها الحكومة مع الموجة الأولى لن يكون متاحًا مرة أخرى. فلا فرض حظر التجوال وإغلاق المحال العامة ممكن فى ظل ارتفاع البطالة وانخفاض الدخول من جراء الموجة الأولى، ولا الدولة لديها الموارد لدعم المتعطلين عن العمل، ولا الاستمرار فى تغطية عجز الموارد الضريبية عن طريق الرسوم بديلًا واقعيًا.
اقتراحى إذن أن نستعد للموجة الثانية من خلال ثلاثة مسارات:
الأول: هو الاعتراف بأن احتمال إغلاق الأنشطة العامة والتجارية يكاد يكون منعدما- ما لم تكن الموجة الثانية عاتية بأكثر مما نتصور- وبالتالى بذل كل الجهد الممكن من الآن للتوعية بالوسائل الوقائية وتوفير إمكاناتها فى أماكن العمل الكبيرة ومواقع التشييد والبناء والمصالح الحكومية والمدارس والجامعات وأماكن العبادة وغيرها. هذه قد تبدو نصيحة بديهية وليست محل خلاف، ولكنى أراها ضرورية نظرا لحالة الاسترخاء التى أصابت البلد وجعلت الناس يعتقدون أن مصر آمنة من الوباء، وأن الرجوع للسلوك السابق طبيعى. نحن بحاجة للتذكرة والتوعية من جديد بأن الخطر لايزال حقيقيا، وأن اقتصادنا لن يتحمل إغلاقا كليا ولا جزئيا، ولذلك فإننا بحاجة لرفع مستوى الاستعداد والوقاية فورا.
الثانى: هو استكمال الجهود التى بدأت فى أعقاب الموجة الأولى لتحسين البنية التكنولوجية ونقل ما يمكن من الخدمات والمعاملات من التعامل المادى للتعامل الإلكترونى. وقد لمسنا كيف تمكن قطاعنا المصرفى من التأقلم سريعا مع الوضع الجديد، وكيف نجحت شركاتنا الوطنية الحديثة مثل الشركات الدولية فى تمكين موظفيها من العمل من منازلهم، وكيف سارعت المدارس والجامعات الخاصة فى الانتقال للتعليم عن بعد، وكيف بادرت بعض المصالح الحكومية واجتهدت فى هذا المجال.. ولكن مرة أخرى، فإن المناخ السائد عمومًا يتجه للتهوين من الخطر ومن ضرورة الاستعداد له، بينما الحقيقة أننا نحتاج لرفع قدرتنا على التعامل الإلكترونى فى كل المجالات تحسبا للآتى.
أما المسار الثالث فيتعلق بمناخ الأعمال. المعادلة صعبة ولكنها واضحة فى نفس الوقت. موارد الدولة لا تكفى لمواجهة موجة وباء ثانية، ومجتمعنا لا يتحمل المزيد من البطالة ولا الضرائب والرسوم ولا الغلاء. لا حل إذن سوى فتح مجالات العمل والإنتاج والنشاط الاقتصادى لكل من لاتزال لديه الرغبة والقدرة على ذلك. وهذا وضع لا يحتمل تعديل قوانين ولا تغيير لوائح ولا تشكيل لجان، بل يلزم له قرار سياسى على أعلى مستوى بتكليف الجهات الحكومية بتخفيف القيود وتجاوز المخالفات البسيطة والحد من تعقيد إجراءاتها. وأنا لا أدعو للتجاوز عن جرائم التهرب الضريبى ولا الاستغناء عن تصاريح البناء ولا التهاون مع النصب والتزوير.. ولكن هناك مستوى أدنى من القيود والعوائق والمخالفات البسيطة التى لا تسبب إلا عرقلة النشاط وفتح أبواب الفساد وطرد المستثمرين الصغار قبل الكبار، يجب الكف عنها فورا، وهذا لن يتحقق إلا بقرار سياسى واضح، وتوجيه بفتح قنوات وشرايين الاقتصاد المعطلة.
لعل التحوط يكون غير مطلوب، ولعل الأمور تسير بسلاسة فلا تأتى موجة ثانية ولا ثالثة، ولكن دعونا نستعد قبل فوات الأوان.