بقلم : زياد بهاء الدين
من جديد تضرب الفتنة الطائفية محافظة المنيا، هذه المرة فى قرية «البرشا» التابعة لمركز ملوى، والواقعة على الحافة الشرقية لوادى النيل، بالقرب من حدود أسيوط جنوبا. لا تكاد تمر بضعة أشهر من الهدوء النسبى فى هذه المحافظة التاريخية الجميلة، والمعروفةُ بوصف «عروس الصعيد»، حتى تنطلق شرارة الفتنة مرة أخرى بسبب شائعة عن تحويل منزل إلى كنيسة، أو شجار بين الشباب، أو تعليق مسىء، وغالبا مجهول المصدر على صفحات التواصل الاجتماعى.
فى كل مرة تسرع قوات الشرطة ومعها القوات المسلحة للسيطرة على الموقف، ويتدخل المحافظ والقيادات المحلية لوأد الخلاف، وتلقى النيابة القبض على المتهمين، ويحضر رجال الدين الإسلامى والمسيحى لتقديم النصح وبناء الجسور.
والذى فهمته ممن أعرفهم من سكان المنطقة أن أجهزة الدولة لم تتأخر فى التدخل فى «البرشا» لحفظ الأمن، وأن المحافظ كان متواجدا منذ اللحظة الأولى، وأن النيابة تقوم بالتحقيق مع المتهمين. هذا مطلوب ويجب أن يكون محل تقدير، لأن ما انتقدناه فى سنوات وأحداث سابقة كان تقاعس المسؤولين وعدم تطبيق القانون بحزم والاعتماد على مصالحات عرفية تؤدى إلى تعميق الفتنة وتشجيع التطرف. ومع اقتناعى التام بأن التعامل مع الطائفية يجب أن يكون بوسائل أمنية ومجتمعية معا، إلا أنه متى وقعت الفتنة واشتعل العنف فلا بديل عن التحرك الأمنى/ القانونى السريع والحاسم لتحقيق تهدئة فورية.
ولكن ماذا بعد؟ هل ننتظر وقوع الفتنة القادمة؟ أم أن هناك ما يمكن عمله لتوقى ذلك؟ وهل الاستعداد للمستقبل يكون بزيادة الاستعدادات والموارد الأمنية فقط؟ أم أن هناك تدخلا مجتمعيا مختلفا؟
الدولة فى تقديرى تدرك أن هناك ترتيبات وتدخلات غير أمنية يلزم القيام بها لدرء الفتن مستقبلا. ولكن ما أخشاه أن يكون ذلك مقصورًا على الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية والبنية التحتية من جهة، والدعوة لتحديث الخطاب الدينى وتطوير التعليم من جهة أخرى، وكلاهما قد يكون مفيدا ولكنهما ليسا كافيين وحدهما. هناك مستوى أعمق للطائفية والتطرف فى الوجدان والسلوك والثقافة السائدة، يحتاج تدخلا بذات العمق والاستمرارية، وغير متعارض مع الجوانب الأمنية والاقتصادية والتعليمية التى ذكرتها.
ما يحتاجه المجتمع المصرى هو أن يعود لدينا صوت ووجود وتأثير لتيار مدنى مستقل، يدافع عن مدنية الدولة، ويحرص على حماية الوحدة الوطنية بالقانون، ويعمل على ترسيخ مفاهيم العدالة والمساواة ونبذ التمييز، ويرصد التجاوزات من كل الأطراف، ويقدم للشباب تصورا مغايرا لخطاب التطرف والانعزال والكراهية السائد فى المجتمع.
ما سبق ليس كلاما جديدا ولا نظريا. بل كان لدينا فى مصر طوال العقود الماضية تيار مدنى واسع ومؤثر، وقف ضد التطرف حينما تقاعست الدولة، وتمسك بالعدالة والمساواة حينما زادت ممارسات التمييز والتفرقة، وكان له باستمرار كتاب وأحزاب وجمعيات أهلية وفنانون ومثقفون وشباب متحمسون، لم يجمعهم برنامج سياسى ولا طموح للسلطة، بل اشتركوا فى إدراك أهمية البديل المدنى للحفاظ على هوية المجتمع المصرى الغنى بتعدده والقوى بتنوع مكوناته والمستقر بقدر ما يسوده حكم القانون.
هذا التيار المدنى يجد نفسه الآن فى لحظة ضعف لأسباب عديدة، من بينها بالتأكيد ضيق مساحة العمل السياسى والأهلى وضيق صدر الدولة بالآراء المستقلة فى مختلف المواضيع. ولكن دعونا لا نتوقف عند هذا الحد، بل نعترف بأن هناك الكثير مما يمكن للتيار المدنى المصرى أن يقوم به لكى يعيد تنظيم صفوفه واسترداد بعض فاعليته حتى فى ظل المناخ السياسى الحالى. ولا أعرف أن تيارا اجتماعيا مؤثرا فى التجارب العالمية، بل والمصرية السابقة، قد انتظر مباركة الدولة وموافقتها وضوءها الأخضر كى يحقق أثرًا.
يمكننا على الأقل الاتفاق على مفهوم مدنية الدولة الذى أصابه الكثير من التخبط وحمايته مما اختلط به من مفاهيم، ويمكننا المطالبة بتطبيق النصوص الدستورية الخاصة بحماية المساواة ونبذ التمييز، والسعى لتشكيل لجنة وطنية مستقلة لهذا الغرض، والإلحاح على صدور قانون حماية المساواة، ويمكننا أيضا التفاعل على الأرض مع ممارسات التمييز الواقعة أمامنا جميعا ولو فى أضيق الحدود المهنية والشخصية، وأن نشجع وندعم معنويا من يتمسك بالحق فى هذا المجال. التيار المدنى لا يحتاج موافقة الدولة- وبالتأكيد لا يحتاج مباركة دولية- كى يسترد عافيته، ولكن يحتاج بعض الثقة والشجاعة والاستعداد للتعاون مع الآخرين ولتجاوز الخلافات السابقة والتفاعل مع قضايا الناس ومشاكلهم، ولو فى حدود المساحات المتاحة.
فهل تلقى هذه الدعوة قبولا ممن لا يزال لديهم تمسك بحلم الدولة المدنية