بقلم : زياد بهاء الدين
ليس خبرًا عاديًا أو مما يمكن أن يمر مرور الكرام ما نُشر بالجريدة الرسمية منذ أيام عن قيام السيد رئيس الجمهورية بإصدار قرار بنقل عشرة من أعضاء الهيئة القضائية والنيابة العامة إلى وظائف غير قضائية، وما نشرته وسائل الإعلام تعقيبًا على ذلك بأن النقل كان لأسباب تتعلق كلها بالسلوك الشخصى.
ليس خبرًا عاديًا، لأن اتخاذ مثل هذا القرار التأديبى حيال عشرة من القضاة وأعضاء النيابة مرة واحدة حدث مهم وذو دلالة كبيرة بالنسبة للمجتمع القضائى محدود العدد، والذى تسوده تقاليد وضوابط مهنية وأخلاقية متميزة. من جهة أخرى، فإن القرار يرسل إشارة مهمة بأن الدولة ليست غافلة عن التجاوزات، وأنها مستعدة للتدخل بسرعة وحسم، حرصا على سمعة ومكانة القضاء المصرى.
هذا اتجاه حميد ومطلوب وعلينا رصده ودعمه، لأنه يصب فى واحدة من أهم مصالح المجتمع، وهى أن يكون لدينا قضاء نزيه ومستقل. ولا أظن أننى بحاجة لتكرار الحديث عن أهمية هذا الموضوع البديهى. يكفى فقط القول بأن العدالة لا تتحقق إلا فى حماية قضاء نزيه ومستقل، وأن تحقيق العدالة هو الغاية الإنسانية الأسمى التى تفوق وتسبق أى إنجاز أو تقدم آخر فى المجتمع.
وقد عبر الدستور الجديد عن أهمية استقلال القضاء ونزاهته بمواد وتعبيرات قاطعة، على رأسها أن «السلطة القضائية مستقلة.. والتدخل فى شؤون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم» (١٨٤)، و«القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون..» (١٨٦)، و«.. تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته وحيدته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات» (٩٤).
مع ذلك، فإن هذه المواد تظل مجرد كلمات وتعبيرات جميلة ما لم يصاحبها تطبيقٌ على أرض الواقع وحرصٌ على الالتزام بروح النصوص وعلى محاسبة أى انحراف أو تجاوز، لأن هذا ما يحقق النزاهة والاستقلال وليس مجرد الحديث عنهما.
ولكن ما نحتاج للتوقف عنده والتفكير فيه بعمق هو مفهوم الاستقلال ذاته، هل هو مجرد الاستقلال الشكلى للقضاة فى قراراتهم وأحكامهم وعدم تدخل السلطة التنفيذية فى أعمالهم؟.. هذا طبعا هو المفهوم الأساسى والحد الأدنى للاستقلال، ولكنه ليس نهاية المطاف.
الاستقلال يعنى أكثر من ذلك بكثير: أن يكون القضاة مستقلين مما يمكن أن يهدد مسارهم الوظيفى بالنقل أو الندب أو غير ذلك من القرارات الإدارية، وأن يكونوا مستقلين ماليا بما يحفظ لهم الحياة الكريمة ولا يعرضهم لحرج أو ضيق فى الحدود الطبيعية وفى ظل احتياجات العصر، وأن توفر لهم الدولة العمل والإقامة فى مناخ مناسب وفى أماكن لائقة، وأن يجرى تحديث القوانين والنظام القضائى لكى لا يكونوا أسرى إجراءات عقيمة تطيل أمد التقاضى وتُفقده فاعليته وتستنزف طاقاتهم، وأن يستفيدوا بإمكانات حديثة لإدارة المعلومات والملفات تحررهم من سطوة الأجهزة المعاونة، وأن تتطور معهم مهنة المحاماة وتستعيد نقابة المحامين دورها فى حماية المهنة ومجازاة المنحرفين فيها، لأن التقاضى عمل مشترك يساهم فيه المحامون فى تحقيق العدالة بقدر ما يحرصون على نزاهتهم ومهنيتهم.
وهنا أحب أن أدلى برأى حول مسألة التعليق على أحكام القضاء، لأننى شخصيًا لا أرى أن استقلال القضاء يعنى تقييد حرية مناقشة أحكامه، بل بالعكس فإن هذا نقاش مطلوب ومفيد من أجل إثراء الحوار القانونى فى المجتمع وتعميق وعى الناس بحقوقهم وبالمفاهيم القانونية والدستورية.. للقضاء الحق فى ألا يكون التعليق متجاوزًا للياقة والأدب، أو منتقصًا من مكانة القضاة، أو باعثًا على الاستخفاف بهم. ولكن النقاش القانونى المحترم والجاد مطلوب لأن القضاء والعدالة ملك للمجتمع، وحرمانه من الحوار الرصين حول القضايا القانونية ينتقص من قدرته على التطور.
وأخيرا، فإن القضاة هم الحراس الحقيقيون على نزاهة ومكانة واستقلال مهنتهم ورسالتهم، وهم وحدهم القادرون على تبنى إصلاح وتطوير النظام القضائى وتنقيته من كل ما يسىء إليه أو يؤثر فى حيدته ونزاهته، وعليهم يقع عبء ومسؤولية حماية التراث القانونى والقضائى الذى تميزت به مصر وارتفعت معه مكانتها عبر العصور