منذ أسابيع والجدل محتدم حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، المعروض على البرلمان. ولم أكن أنوى التعليق عليه نظرًا لأن أساتذة وخبراء متخصصين قاموا بذلك بالفعل ونشروا آراءهم القيمة. ولكن قرأت بيان لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بالبرلمان، الصادر أمس الأول (الثلاثاء)، والمتضمن هجومًا عنيفًا على معارضى مشروع القانون، ففوجئت بمضمونه وتعبيراته التى يجب التوقف عندها حرصًا على تراث وتقاليد الحوار البرلمانى المصرى.
البيان الصادر من اللجنة يسرد أولًا خلفية الموضوع، بدءًا من تلقى مشروع القانون من الحكومة، ثم تشكيل لجنة فرعية ضمت ممثلين لمختلف لجان البرلمان المعنية مع الهيئات القضائية المختلفة، والمجلس القومى لحقوق الإنسان، ونقابة المحامين، وأساتذة القانون، وممثلين عن وزارات الداخلية والعدل وشؤون المجالس النيابية.
وأوضح البيان أن اللجنة ناقشت الموضوع لمدة أربعة عشر شهرًا متواصلة حتى تمكنت من إعداد مشروع قانون جديد، وافقت الحكومة على أن يكون بديلًا عن المشروع المُعد من جانبها. ثم دعا السيد المستشار رئيس مجلس النواب لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية لاستكمال مناقشة مشروع القانون، وحضر جلساتها ممثلو الحكومة ونقيب المحامين، وأخذت ببعض مقترحات نقابة الصحفيين المتعلقة بضمانات حرية التعبير والنشر. وانتهى البيان إلى أن المقرر أن تنتهى اللجنة من أعمالها بالأمس (الأربعاء)، تمهيدًا لعرض مشروع القانون على مجلس النواب.
■ ■ ■
إلى هنا لا شىء غريب، بل من الطبيعى أن تُصدر اللجنة- إذا شاءت- بيانًا توضح فيه ملابسات وظروف إعداد مشروع القانون، ومن الطبيعى أيضًا أن يثير مثل هذا القانون الأساسى والهام ردود فعل مؤيدة ومعارضة.
■ ■ ■
ولكن للأسف أن البيان ينطلق بعد ذلك فى مسار غريب، إذ يصف منتقدى مشروع القانون بأنهم «لجأوا إلى تحويل الخلاف التشريعى إلى خلاف سياسى، متجاوزين بذلك حدود النقاش القانونى»... وأنهم «استخدموا النقد كوسيلة لمهاجمة مشروع القانون والجهة التى أعدته».. وأنهم «لجأوا إلى الكذب والتضليل.. وعمدوا إلى تحريف النقاش». وانتهى بتحذير معارضى المشروع «ممن لهم نوايا خبيثة، أن يدركوا أن العدالة لا تخضع للأهواء».
والحقيقة أن النصف الثانى من البيان غير مقبول ويستوجب السحب والاعتذار للأسباب التالية:
أولًا، لأن اللجنة لها أن تُعد المشروع الذى تقتنع به، ولها كل الشكر والتقدير على ذلك، ولها أن ترد على انتقادات من يعترضون عليه بالحجة والرأى. ولكن ليس لها أن تصفهم بتحويل المناقشة إلى خلاف سياسى، واللجوء للكذب والتضليل وتحريف النقاش، وأن لهم نوايا خبيثة، فهذا خروج عن قواعد الحوار السياسى والبرلمانى المستقرة من قرن ونصف القرن.
ثانيًا، لأن البيان فيه نبرة تهديدية لا يصح أن تصدر من لجنة مهمتها إعداد مشروع قانون للمناقشة، إذ يصف معارضى القانون بأنهم تجاوزوا «حدود النقاش القانونى إلى مهاجمة مشروع القانون والجهة التى أعدته». ولكن ما هى حدود النقاش القانونى؟ وهل هناك نقاش غير قانونى؟ وما معنى مهاجمة الجهة التى أعدت مشروع القانون؟ هل المقصود بذلك الحكومة أم اللجنة الفرعية أم لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية أم جهة أخرى؟ وما المانع من الاعتراض على مواد فى مشروع القانون أيًا كانت الجهة التى أعدته؟
وثالثًا، لأن الفقرة الأخيرة من البيان تضمنت تعبيرًا قد يفسر الخطأ الجسيم الذى ارتكبته اللجنة بإصدار هذا البيان، إذ جاء فيها أن على معارضى مشروع القانون «أن يدركوا أن العدالة لا تخضع للأهواء».
وهنا يستوقفنى استخدام كلمة «العدالة» لوصف عمل اللجنة، أى عدالة بالضبط؟ وما دخل العدالة بمناقشة برلمانية؟ الواقع أن أعضاء اللجنة الموقرين قد يكون بعضهم من القضاة السابقين أو حتى الحاليين (إن كانت اللجنة تستعين بآراء مستشارين فى الخدمة القضائية). ولكن فى الحالتين فهم لا يمارسون هنا عملًا قضائيًا، ولا يسعون للعدالة ولا يعبرون عنها. هذه مهمتهم حينما يجلسون على منصة القضاء التى لها ولهم كل احترام وتقدير، أما عضوية لجنة برلمانية فليست عملًا قضائيًا ولا شأن لها بالعدالة.
أنا طبعًا لم أقرأ أو أشاهد كل ما قيل فى انتقاد عمل اللجنة ومشروع القانون، فهذه مهمة مستحيلة، وقد يكون بعضه خرج عن حدود النقد اللائق. ولكن هذا لا يبرر صدور بيان بهذه الصيغة لأن هذا النقد إما أن يكون موضوعيًا وقيمًا، فيستحق عندئذٍ الرد بجدية واحترام، أو يكون هزيلًا أو حتى خارجًا عن اللياقة، فيستحق الإهمال والتجاهل.
أما أن تصدر لجنة برلمانية بيانًا تهاجم فيه منتقديها والمعارضين لمشروع القانون بهذه الحدة، أو أن تتصور أن عملها له الحماية والاحترام الواجبين للقضاء والعدالة.. فهذا غير مقبول. وأتمنى أن يتدخل السيد المستشار رئيس مجلس النواب لسحبه رسميًا. صحيح أن اللجنة- وفقًا لبيانها- أنهت أعمالها بالأمس، ولكن التدخل يظل مطلوبًا ليس فقط لاستكمال مناقشة قانون الإجراءات الجنائية فى مناخ صحى، وإنما الأهم حرصًا على تراث المناقشة البرلمانية الحرة الذى يستحق الحماية والاحترام.