بقلم: زياد بهاء الدين
دعونا لا نخلط الأوراق فى موضوع الحد الأدنى للأجور.
قرار رفع الحد الأدنى للأجر الحكومى من ألف ومائتى جنيه شهرى إلى ألفى جنيه يجلب مصلحة أكيدة للعاملين فى الدولة ممن يقل دخلهم حاليا عن ذلك. ولهذا فهو يستحق الإشادة والتقدير، ولا أتصور أن يكون فى حد ذاته محل للاعتراض إلا ممن يتجاهل أن هناك من سيعود لمنزله فى نهاية الشهر ومعه ثمانمائة جنيه إضافية وهو مبلغ لا يستهان به لقطاع واسع فى المجتمع.
والحد الأدنى للأجر كان أحد المطالَب الرئيسيّة لثورة يناير، وظل الموضوع يتراخى ويتأخر، وفكرت حكومة الإخوان المسلمين فى تطبيقه ثم تراجعت، ثم أقرته أخيرا حكومة الببلاوى نهاية عام ٢٠١٣ بعد نقاش طويل وحسابات معقدة قامت بها وزارتا التخطيط والمالية انتهت إلى مبلغ الألف ومائتى جنيه. وقد دار وقتها حوار يشبه الجارى الآن: هل المبلغ كاف أم أقل من أن يحقق الغرض؟ وهل سيجرى تطبيقه على القطاع الخاص أم يقتصر على موظفى الدولة والقطاع العام؟ وما تأثيره على التضخم؟ وماذا عن ملايين العاملين فى أنشطة غير رسمية ؟ وهل إقراره من حكومة الببلاوى كان «لوجه الله» أم لكسب ود محدودى الدخل فى لحظة سياسية عصيبة؟ كل هذا تردد وانتشر فى الأوساط الثقافية والسياسية ثم جرى نسيانه. وبقى الحد الأدنى للأجور واحدا من أهم مكتسبات ثورتى يناير ويونيو.
مع ذلك فإن الزيادة الأخيرة تثير أسئلة ومخاوف مبررة، لا أدعو لتجاهلها أو اعتبارها دعاية سياسية مضادة، بل يجب مناقشتها بجدية، ولكن أرى أن يكون ذلك دون الانتقاص من قيمة مفهوم الحد الأدنى للأجر ومن أهمية كل زيادة يمكن أن تطرأ عليه.
والسؤال الأهم بالتاكيد يتعلق بنطاق الاستفادة بالزيادة الأخيرة. فالمفهوم من تصريح السيد الرئيس أنه يتوجه للعاملين فى الدولة دون بيان ما إذا كان ذلك يشمل القطاع العام، وهذا توضيح مطلوب لأنه لا وجه أو سبب للتفريق بين الفريقين. ثم يأتى الشق الأكثر صعوبة من السؤال وهو ما إذا كانت الزيادة سوف تسرى على العاملين فى القطاع الخاص أم لا. فهل تستهدفهم الدولة؟ وما أدواتها فى تحقيق ذلك؟ وهل يتحمل القطاع الخاص أعباء إضافية بعد الزيادات الأخيرة فى الرسوم والضرائب وأسعار الخامات والمعدات والوقود والكهرباء؟
رأيى الخاص أن رفع الحد الأدنى للأجور يجب أن يمتد للجميع، قطاعا عاما وخاصا، لأنه ليس مجرد زيادة فى الأجر يقررها صاحب العمل لعماله، بل حق اقتصادى أساسى وأحد أهم أدوات الحماية الاجتماعية التى لا ينبغى أن تكون محلا للتفرقة بين المواطنين. ولذلك فبدلا من انتقاد القرار الأخير يلزم المطالبة بتوسيع نطاقه لكى يشمل كل من يتقاضى أجرا أيا كان مصدره وطبيعة عمله.
وأما عن صعوبة تطبيقه على القطاع الخاص الذى يعانى بالفعل من زيادة التكاليف، وهذا اعتبار ليس بثانوى، فإن سياسة الدولة يجب أن تتجه إلى خفض هذه التكاليف، والحد من الرسوم المبالغ فيها، ووقف العمل بالإتاوات الرسمية وغير الرسمية، بما يجعل زيادة التكلفة المترتبة على تطبيق الحد الأدنى للاجور متوازنة مع وفورات أخرى يستفيد منها القطاع الخاص.
ثم نأتى لأثر زيادة الاجور الحكومية على التضخم، خاصة فى أعقاب موجة الغلاء الفاحشة التى أطاحت فى العامين الماضيين بأحلام ومدخرات الكثيرين. وفى تقديرى أنه حتى لو كان لهذه الزيادة أثر تضخمى فإن لها أيضا أثر توزيعى، وهو الأهم، لأنها ترجح كفة محدودى الدخل بشكل خاص. وعلى كل حال فإن مواجهة التضخم بشكل جذرى لن تتحقق إلا بزيادة الانتاج، وتحسين الكفاءة، ومقاومة الاحتكارات، وضبط الاسعار بالادوات المتاحة للدولة، وحماية المستهلكين من الاستغلال والنصب، والحد من إهدار المال العام، وليس بحرمان الأكثر احتياجا من زيادة طفيفة فى الأجور.
وأخيرا يتبقى السؤال المطروح حول مدى ارتباط الزيادة الأخيرة بالاستفتاء الدستورى المزمع تنظيمه قريبا، خاصة وأن التوقيت يوحى بأن الأمرين مرتبطان. ولكن الحقيقة أن ما يجب أن يهمنا هو أن قطاعا لا يستهان به من المجتمع يعانى من ضيق العيش وصعوبة تدبير احتياجاته اليومية سوف تتاح له زيادة فى الدخل هى أقل ما يستحقه، بغض النظر عن الملابسات السياسية المحيطة بها. والأفضل أن يكون اهتمامنا بأن يستفيد كل محدودى الدخل من الزيادة الممكنة للأجور بدلا من قصر الاستفادة بها على فئة محدودة منهم.
معارضة الحكومة واجب فيما يحقق الصالح العام ولكن الانتصار للناس ولمصالح الفقراء أكثر أهمية، والحد الأدنى للأجور مكسب قانونى واجتماعى كبير يلزم التمسك به وتوسيع نطاقه وتدبير تمويله ولو على حساب موارد أخرى.