بقلم-زياد بهاء الدين
من وقت لآخر يطرأ على المشهد العام موضوع يبدو فى أصله بسيطا وعابرا ولكن يتحول، بسبب رد فعل الناس له وانتشاره على صفحات التواصل الاجتماعى، إلى قضية رأى عام ساخنة تفتح جدلا واسعا وتحرك المياه الراكدة وتدفع المجتمع لإعادة النظر فى الأفكار السائدة والقيم المستقرة.
من هذا النوع كان الحوار التليفزيونى الذى أجرته الأسبوع الماضى مذيعة على قناة تليفزيونية محلية لم يتبين لى اسمها مع مجموعة من الفتيان المهربين للملابس والبضائع من مدينة بورسعيد. ولكن بدلا من أن تحقق المذيعة هدفها باستدعاء مشاعر الإدانة والازدراء تجاه هؤلاء المجرمين الصغار وإقناعنا بأنهم متقاعسون عن البحث عن أعمال شريفة متوافرة من حولهم، إذا بها تنجح، بسبب حالة الجهل والصلف والتعالى التى أجرت بها الحوار، فى إثارة التعاطف معهم والغضب على مثل هذا التناول الإعلامى الهزيل بل والانتقاد للسياسات الحكومية العاجزة عن التعامل مع مشاكل المجتمع.
عاصفة التعليق والجدل التى أثارها الحوار التليفزيونى تناولت الموضوع من مختلف جوانبه الإنسانية والاجتماعية والسياسية ولذلك فاسمحوا لى بتجاوز التفاصيل والتأمل قليلا فيما كشفت عنه هذه الواقعة من حاجة ماسة فى مجتمعنا لمناقشة قضية العدالة فى حد ذاتها، مفهومها وأهميتها وأدواتها، وضرورة التفرقة بينها وبين مفهوم النظام القانونى.
النظام القانونى هو ما يشرعه البرلمان من نصوص ملزمة وما تصدره السلطة التنفيذية من قرارات ادارية وما تقرره المحاكم من أحكام واجبة النفاذ. أما العدالة فمفهوم اخلاقى وقيمى يستهدف تحقيق التوازن السليم فى المجتمع بين الحقوق والالتزامات لكل الأطراف حيال بعضها البعض: الدولة والمواطن، الزوج والزوجة، البائع والمشترى، الجانى والمجنى عليه، الشعب والأجيال القادمة، الملكية الخاصة والعامة، الانتاج والحفاظ على البيئة، وغير ذلك من المصالح المتقابلة. وكلما كانت هذه التوازنات منطقية ومتزنة وناتجة عن تفاعل مؤسسى سليم وديمقراطى وتشاركى، كلما كان المجتمع متمتعا بالسلم الاجتماعى والاستقرار الحقيقى.
ولأن القانون والعدالة مفهومان مختلفان، الاول واقعى والثانى قيمى، فليس غريبا أن يكون هناك قانون ظالم أو حكم قضائى غير عادل. والفجوة بينهما هى ما يجعل الجدل القانونى والدستورى مطلوبا فى كل مجتمع ومصدرا للتقدم والترقى لأنه الوسيلة الوحيدة للتحقق من أن القانون ليس بعيدا عن العدالة، بل قريبا منها وساعيا لها ولو لم يبلغها. والقول الشائع بأن الحكم عنوان الحقيقة لا يعنى أن الحكم القضائى بالضرورة عادل وإنما أنه لأسباب عملية وواقعية يجب أن يتمتع بمرجعية مطلقة فى تحديد الحقوق والواجبات والاوضاع القانونية دون أن يعنى ذلك أنه يعبر عن العدالة. ولهذا فإن الحكم القضائى يكون جديرا بالإلغاء أو المراجعة من محكمة الدرجة الاعلى ليس حينما يكون غير عادل بل عندما يخالف تطبيق أو تفسير القانون. وبسبب هذا التناقض المستمر فإن القاضى ذا الضمير اليقظ، حينما يجد نفسه أمام حالة صارخة يتعارض فيها القانون مع العدالة، يبحث عن مخرج إجرائى أو تفسير مبتكر أو نص قانونى مهمل أو حكم سابق يرجح به العدالة على التطبيق التقليدى للقانون ولكن دون أن يسمح لنفسه بمخالفته بشكل صريح.
هذه القضايا الشائكة كلها ظهرت على السطح بمناسبة الحوار التلفزيونى مع مهربى بورسعيد. الذين طالبوا بتطبيق القانون عليهم استندوا إلى انهم لم ينكروا الجرائم التى ارتكبوها، ولم يدعوا جهلا بالقانون، والتصرف الذى قاموا به جريمة واضحة المعالم، واحترام القانون يعنى إحالتهم للنيابة ثم القضاء ليقرر عقوبتهم. اما من انحازوا لهم وطالبوا بالعفو عنهم فقد اعتبروا أن العدالة تقتضى أخذ صعوبة الوضع الاقتصادى الراهن فى الاعتبار، وندرة فرص العمل البديلة، وغرابة ان تتصالح الدولة وتعفو عن عتاة المجرمين والمتهربين من أداء رسوم جمركية وضرائب تبلغ آلاف الأضعاف مما حققه فتيان بورسعيد ثم تنزل عليهم بكامل مطرقة القانون. والمقابلة هنا تعبير واضح عن الصراع بين مفهوم القانون ومفهوم العدالة.
لا أعلم كيف تنتهى قضية مهربى بورسعيد الشبان ولكن أتمنى أن تكون هذه مناسبة للتأمل والتفكير وفتح حوار ضرورى حول مستقبل الفانون والعدالة فى مصر.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع