بقلم : زياد بهاء الدين
طرحت الأسبوع الماضى بعض الأسئلة حول قرار تصفية مصنع الحديد والصلب، وكان هدفى دعوة من لديهم معرفة بتفاصيل وملابسات القرار - من الحكومة ومن خارجها - لمخاطبة الرأى العام وشرح أسباب انهيار واحد من أكبر مصانع مصر بدلا من الاكتفاء بوصف حالته المتردية وخسائره المتراكمة انتهاء بأن تصفيته هى النتيجة الوحيدة المنطقية.
وفى تقديرى أن الحوار الذى دار طوال الأسبوع الماضى فى مختلف وسائل الإعلام كان مفيدا وكاشفا، وأشيد فى هذا المقام بتصريحات السيد/ هشام توفيق، وزير قطاع الأعمال العام، لأنها كانت صريحة ووافية، وبتعليق السيد/ منير عبدالنور على مقالى السابق، ومن جانب المعترضين على القرار بما كتبه الدكتور/ نادر رياض فى جريدة الأهرام والذى اهتم بتبعات التصفية وليس بمبرراتها فقط، وبالعديد من التعليقات الأخرى من الجانبين. وقد استفدت شخصيا من هذا النقاش وخرجت منه بما يلى:
الواضح أن حجم خسائر المصنع الجارية والمتراكمة وتهالك معداته وانهيار إنتاجيته لا تسمح باستمراره على حالته الراهنة بل تحتم اتخاذ قرار حاسم بوقف هذا النزيف. والواضح أيضا أنه لو كان إصلاحه ممكنا من سنوات فإن الوضع تفاقم مؤخرا إلى الدرجة التى تجعل تكلفة الإصلاح والتجديد أكبر مما يبرره الحساب الاقتصادى. لذلك، ومع تقديرى لحالة الإحباط السائدة لدى من لا يريدون لهذا المصنع العملاق أن ينتهى هذه النهاية المؤسفة، إلا أنه لا يبدو أن هناك مفرا من التصفية.
ولكن من جهة أخرى فإن الحالة التى انتهى إليها مصنع الحديد والصلب لم تكن حتمية من البداية بل جاءت نتيجة تراكم سياسات وقرارات على مدى العقود الماضية أدت فى النهاية إلى الوضع الحالى. فإذا كانت التصفية ضرورية لأن عدد العاملين تجاوز يوما ما الخمسة وعشرين ألفا بينما المطلوب لتشغيله بكفاءة لا يتجاوز ٢٠٪ من هذا العدد، وأن معداته لم يجر تجديدها من عشرات السنين، وأن تطويره ماليا وإداريا قد تأخر، فإن هذا يعنى أن إفلاسه كان نتيجة الإهمال والتجاهل وعدم اتخاذ خطوات جادة لإصلاحه من بداية التعثر. وهذا ليس بغرض التحسر على الماضى ولا محاسبة المسؤولين السابقين، بل لأن معرفة أسباب الانهيار ضرورية من أجل التفكير بشكل سليم فيما لاتزال الدولة تملكه من أصول إنتاجية، وكيفية الحفاظ عليها والاستثمار فيها إن كانت ضرورية ونافعة للاقتصاد القومى، أو بيعها والتصرف فيها بالعائد المناسب إن كانت غير ضرورية ولا أمل فيها. أما ترك الشركات حتى تبلغ مرحلة الانهيار ولا يبقى إلا تصفيتها فهو بالقطع أسوأ النهايات. والاختيار بين الاحتفاظ والصيانة والاستثمار، وبين البيع أو التصرف يجب أن تحكمه سياسة واحدة متسقة ومعلن عنها للرأى العام. وما سبق بالمناسبة لا يخص شركات قطاع الأعمال العام وحدها بل يسرى على كل ما يدخل فى ملكية الدولة أيا كان مسماه القانونى بما فى ذلك شركات القطاع العام والشركات المملوكة ملكية خاصة للبنوك العامة وللعديد من الوزارات والهيئات العامة.
يشغلنى أيضا أن الحوار الجارى ركز فقط على ما إذا كان مصنع الحديد والصلب فى حد ذاته قابلا للاستمرار كمنشأة اقتصادية أم أنه لا مفر من تصفيته، فكانت النتيجة هى التصفية. ولكن غاب عن الحوار ما إذا كانت مصر تحتاج لهذا النوع من التصنيع الثقيل، أم يمكننا استبداله بالتصدير، أم الاستغناء عنه بالكامل دون تهديد مستقبل الصناعة الوطنية. الذى أقصده أن إفلاس منشأة وتهالك معداتها وتدهور إنتاجيتها مبررات قوية وكافية لتصفيتها فى حد ذاتها، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة أن النشاط بأكمله لم يعد مطلوبا. وأترك للمتخصصين فى الصناعة التعليق على هذا الموضوع لأنه لو كان مستقبل التصنيع المصرى يحتاج هذا النوع من الإنتاج الثقيل فإن قرار تصفية المصنع الحالى لا يتعارض مع التفكير فى إنشاء بديل عصرى واقتصادى له، سواء بمال عام أم خاص. وللأسف أن الطرف الذى غاب عن الحوار الأخير كان وزارة الصناعة التى يفترض أن تكون أول وأهم من يدلى برأى فى هذا الموضوع من منظور مستقبل الصناعة بشكل عام وليس مجرد الجدوى الاقتصادية وحساب الأرباح والخسائر لمصنع بعينه.
دعونا إذن لا نقصر حوارنا على هذا المصنع وحده، بل الأهم هو النظر إلى مقومات ومستقبل التصنيع فى مصر، وإلى متطلبات تنميته والنهوض به، وفيما يجب على الدولة أن تقوم به لاستبدال الأصول التى يجرى تصفيتها وإهلاكها بمقومات جديدة وباستخدام الخبرات والعمالة الماهرة المتوافرة، سواء كان ذلك بتمويل من القطاع الخاص فيما يحسن القيام به، أم برعاية الدولة وتدخلها فيما له أهمية استراتيجية أو تنموية