توقيت القاهرة المحلي 06:19:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة

  مصر اليوم -

السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة

بقلم - زياد بهاء الدين

فاجأنى قرار رئيس مجلس الوزراء الصادر من أيام قليلة بشأن تنظيم الحفلات والمهرجانات كما فاجأ الكثيرين، ليس لأنه الأشد تأثيرا وتضييقا على حرية الرأى والتعبير، بل لأنه يعبر عن رغبة فى السيطرة على الثقافة والفن والابداع بأسلوب لا ينتمى للعصر الذى نعيشه وبشكل بالغ الضرر بالثقافة المصرية.
باختصار فإن القرار الأخير ــ رقم ١٢٣٨ لسنة ٢٠١٨ ــ يمنع تنظيم المهرجانات والحفلات والفاعليات الفنية والثقافية إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة. وهذا فى حد ذاته حكم غريب لأن مصطلح «فاعليات ثقافية» شديد الاتساع وبالتالى لا يقتصر على المناسبات الكبرى التى يحضرها الآلاف وقد تحتاج لرقابة وتنظيم، بل يشمل كل نشاط ثقافى، الكبير منه والصغير، بمقابل وبالمجان، الحكومى والخاص، الموسيقى والسينمائى والتشكيلى والأدبى، وسواء كان فى قاعة أو نادٍ أو نقابة.
وقد نص القرار على تشكيل لجنة عليا للمهرجانات برئاسة وزيرة الثقافة وعضوية ثمانى وزارات بجانب رؤساء النقابات الفنية والأدبية، تختص بدراسة طلبات إقامة المهرجانات والحفلات، ووضع أجندة سنوية لها، والتنسيق مع المحافظين كى لا ينعقد أى مهرجان أو احتفال خارج هذا التنظيم.
ثم نص القرار بعد ذلك على مجموعة من الضوابط التى تحكم سيطرة الدولة على النشاط الثقافى، فنجد أن على الجهة الراغبة فى عقد مهرجان أو احتفال تقديم طلبها خلال شهر يونيو فقط من كل عام، وأن الطلب يجب أن يتضمن أسماء كل المدعوين، وأن الجمعيات الأهلية لا يجوز لها إقامة حفل إلا إن كان لها «نشاط ملموس لخدمة المجتمع فى مجال تخصص المهرجان أو الاحتفال»، أما الشركات فيجب أن يكون ٥١٪؜ على الأقل من رأسمالها مملوكا لمصريين، وأخيرا فقد نص القرار على ضرورة مراعاة «العدالة الثقافية فى توزيع المهرجانات والاحتفالات على محافظات الجمهورية» وعدم إقامة أكثر من مهرجان أو احتفال فى ذات المجال فى نفس المحافظة.
نحن إذن لسنا أمام تنظيم قانونى يستهدف تأمين وحماية المهرجانات والاحتفالات حرصا على سلامة الحاضرين، ولا يستهدف الحد من التهرب الضريبى على النشاط الفنى، ولا حماية حقوق الملكية الفكرية، وكل هذه أهداف طبيعية ومشروعة كان ينبغى أن تعتنى بها الحكومة. نحن أمام سياسة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لأنها تستهدف السيطرة على النشاط الفنى والثقافى والإبداعى فى حد ذاته، وتتصور أن بالإمكان أن تضع له الدولة خطة سنوية على نحو ما تخطط لبناء الطرق والكبارى والمستشفيات العامة. وهذا كله غير قابل للتحقيق ويضر بالثقافة المصرية لعدة أسباب.
من جهة أولى فإن القرار يعبر، فى الجانب الثقافى هذه المرة، عن التداخل المستمر فى الدوائر الحكومية بين دور الدولة فى إدارة شئونها ودورها فى الاشراف على القطاعين الخاص والأهلى. أن تضع وزارة الثقافة برنامجها السنوى فهذا شأنها، ولكن لم تلزم الشركات الخاصة والجمعيات والنوادى بهذه الخطة المركزية؟ إذا كانت الدولة حينما تنظم انشاء مستشفياتها ومدارسها لا تفرض على القطاع الخاص الالتزام بخطتها السنوية فمن باب أولى ألا تفرض خطتها المركزية الثقافية على باقى المجتمع. وإذا شاءت أن تتدخل بشكل إيجابى فى تنظيم النشاط الثقافى، فلتبدأ بالعناية بمراكزها الثقافية وقصور الثقافة التابعة لها والمحرومة من الموارد والامكانات بدلا من السعى للسيطرة على النشاط الثقافى الخاص والأهلى.
من جهة ثانية فإن القرار الأخير يعبر عن التصور السائد فى الدولة بأن النشاط الثقافى والفنى يحتاج تنظيما وتقييدا وتخطيطا كى يحقق أهدافه، بينما الحقيقة أنه لا يحتاج كى ينمو وينطلق ويرتقى إلا المساندة والحماية والمناخ المشجع على الحرية والابداع، وليس المزيد من السيطرة والتدخل. والغريب أن يأتى هذا القرار فى أعقاب فضيحة تدخل أحد المجالس الإعلامية الجديدة لتقييد حرية الصحافة والتعبير بدلا من الدفاع عنها ثم تدخل النيابة العامة لمنعه من إصدار قرارات بحظر النشر فى سابقة لم تحدث فى مصر من قبل، وتعبر عن النتائج المضطربة التى يمكن أن يؤدى اليها الصراع والتنافس على تقييد الحريات حينما يفتقد لمنطق واضح ولأسس دستورية سليمة.
وأخيرا فإن قرار تنظيم الفاعليات الثقافية مثال على خطأ الاعتقاد بأن القانون واللوائح هم أداة تنظيم كل شىء، وعلى خطورة إطلاق يد من يكتبون مثل هذه القرارات دون تشاور مع الدوائر الأوسع من المهتمين والمعنيين بالتشريع. وما يدفعنى لهذا التعليق أننى واثق أن بين المسئولين فى الحكومة ووزارة الثقافة من سوف يبادرنا بالتأكيد على أن ما تضمنه القرار الأخير من قيود وشروط وضوابط لا يستهدف كل فاعلية وكل مناسبة ثقافية وكل حفل موسيقى، بل مجرد الحفلات والمهرجانات الكبرى التى يحضرها عشرات الآلاف والتى تحتاج دعما من الدولة وتنظيما وتنسيقا واشرافا. ولكن مثل هذه التوضيحات والمبررات، لو صدرت، لن تكون مطمئنة لأن النص القانونى واضح والصياغة تحتمل التوسع وصدور القرار بهذا الشكل غير المنضبط يجعله سيفا على رقاب من يفكر فى إقامة نشاط ثقافى أو فنى.
نصيحتى للدكتورة وزيرة الثقافة، ولا أشك انها حريصة على تشجيع الثقافة والفن والابداع، أن تطلب إلغاء هذا القرار واستبداله إذا شاءت بقرار يقتصر على تنظيم المهرجانات التى تقيمها أو تدعمها الدولة، دون التدخل فى النشاط الثقافى والفنى الحر، لأن محاولات السيطرة على الثقافة لن تؤدى إلا للنتيجة الحتمية التى نعانى منها بالفعل: المزيد من تدهور المستوى الفنى والثقافى، والمزيد من سطوة الفن الردىء، والمزيد من ضياع مكانتنا الثقافية فى العالم العربى و«القوة الناعمة» لمصر.

نقلا عن المصري اليوم الفاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة السيطرة على الثقافة ليست مهمة الدولة



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon