بقلم: زياد بهاء الدين
فى يوم من أيام ربيع 2021 ذهبت مع أسرتى للمرة الأولى لزيارة المتحف القومى للحضارة فى منطقة عين الصيرة، وكان ذلك بعد افتتاحه بأسابيع قليلة ومتابعتنا احتفالية نقل مومياوات أجدادنا الفراعنة للمتحف الجديد بعد رحلتهم الشهيرة من ميدان التحرير فى موكب الملوك والملكات، الذى كان فى حد ذاته حدثًا هائلًا.
أعجبنى متحف الحضارة من أول زيارة، وصار من الأماكن المفضلة لدىَّ، والذى أشجع الشباب على زيارته لأنه جمع فى مساحة صغيرة مختارات رائعة من الحضارة المصرية عبر العصور بما يسمح للزائر، الذى لن يقضى سوى بضع ساعات، أن يستمتع بجولة لطيفة وثرية وغير مرهقة على نحو ما صارت عليه السياحة العالمية.
المهم أننى فى نهاية أول زيارة وقبل الانصراف اتصلت بصديقى وزميلى الدكتور أحمد غنيم- وكان قد جرى تعيينه مديرًا للمتحف- كى ألقى عليه السلام وأهنئه بالمنصب الجديد، وكنت أعرفه قبل ذلك أستاذًا للاقتصاد الدولى، ثم مستشارًا ثقافيًا لمصر فى ألمانيا.
لن أنسى هذا المشهد لأننى دخلت عليه غرفته فوجدته- بعد الترحيب والشكر- سعيدًا طبعًا بالمهمة الجديدة، ولكن كان مهمومًا بما اكتشفه.. أن المتحف فيه قطع أثرية رائعة ولا مثيل لها فى العالم كله.. ووراءه حماس من الوزير وقتئذ الدكتور خالد العنانى، واهتمام إعلامى ومتابعة من السفراء الأجانب.. ولكن يقيده أمران، هما عنوان الحالة البيروقراطية المصرية: الأول عدم وجود موارد على الإطلاق لتفعيل طاقة المكان واستغلاله على النحو الأمثل، والثانى الشبكة العنكبوتية من القوانين والنظم والقيود والرقابة وإعادة الرقابة، بما يجعل القيام بأى مبادرة «خارج الصندوق» أمرًا مستحيلًا ومحفوفًا بالمخاطر.
خرجت يومها متسائلًا عما سيفعله الدكتور أحمد، وهل سينجح فى مهمته أم سوف يستسلم للضغوط ويفقد حماسه بعد قليل؟
والحقيقة أنه خلال شهور قليلة كان صديقنا قد أدرك أن لا سبيل لنجاح مشروعه الثقافى إلا باقتحام كل الجبهات والاعتماد على نفسه وعلى اجتهاده الشخصى، وعدم السكون للواقع البيروقراطى. وبالفعل من خلال مزيج من الاجتهاد، والعلاقات، والتفكير الاقتصادى، والدبلوماسية، والابتكار، والإلحاح، نجح الدكتور غنيم فى أن يحول المتحف إلى مركز نشاط ثقافى وفنى لا يكاد يضاهيه مؤسسة ثقافية أخرى فى مصر، وأن يجمع دائرة من المهتمين والداعمين، وأن يضع متحف الحضارة فى صدارة الخريطة السياحية والثقافية لمصر.
تذكرت لقائى الأول مع الدكتور أحمد غنيم فى متحف الحضارة الأسبوع الماضى، وأنا أحضر احتفالية نهاية رئاسته وانتقاله لإدارة المتحف المصرى الكبير، والحرارة التى أحاطه بها أصدقاؤه وزملاؤه وضيوفه والجهات التى تعامل معها، والسفارات التى عرفته، والشركات التى دعمت نشاطه. وأردت أن أكتب عن تجربته من هذه الزاوية تحديدًا.. زاوية القيود التى تواجه كل من يشغل منصبًا حكوميًا، ويرأس مؤسسة ثقافية أو غيرها وما يتعرض له من تدخلات، ومطالب، ومشاكل، وقلة موارد، فيكون عليه أن يختار بين اقتحام المعركة بالأدوات المتاحة أو الاستسلام وقبول الأمر الواقع. وفى رأيى أن الدكتور أحمد نجح فى أن يخلق «حالة» من النشاط الثقافى والفنى حول المتحف وبداخله بذات الموارد والإمكانات التى كانت متاحة له، وضمن ذات القيود الحكومية والضغوط المتنوعة، وهذا ما يجعله مستحقًا لكل الشكر والتقدير.
■ ■ ■
والآن ينتقل لمنصب أكبر وأصعب، لمتحف مصر والعالم، لأحد أهم المشروعات القومية، لقيود مالية أشد، ودولة أعمق، وتدخلات أكبر، ولكن أيضًا لفرصة فريدة لإدارة افتتاح المتحف الذى ينتظره العالم كله، ولاستغلال مساحة ثقافية لا مثيل لها.
فخالص التمنيات له بالتوفيق فى موقعه الجديد، ولمدير متحف الحضارة الجديد الدكتور الطيب عباس بالنجاح فى مهمته.