بقلم : زياد بهاء الدين
بعد أسبوع أو يزيد من الأحداث المؤسفة، انفرجت الأسارير حَذِرًا صباح الأحد، ثم انطلقت حالة من السعادة الغامرة فى كل أنحاء البلد مع إعلان تحرير السفينة العالقة فى القناة وانطلاقها فى طريقها غير مأسوف عليها.
السعادة التى اجتاحت البلد ليست غريبة ولا مبالغ فيها، ففضلا عن أن لقناة السويس مكانة تاريخية وتراثية فى قلوب المصريين، وارتباطها بحروب وشهداء وبالاستقلال الوطنى، وما لها من أهمية اقتصادية بالغة لمصر وللعالم، فإن لهيئة قناة السويس موقعًا متميزًا عند الناس، لأنها تستدعى - وعن حق - معانى الجهد والكفاءة والعمل المخلص على نحو ما أثبت القائمون عليها. ولا أظن أن صور المهندسين والعمال والقباطنة والبحارة السعداء والفخورين بما حققوه سوف تفارق أذهاننا لمدة طويلة.
أجواء السعادة والارتياح ينبغى ألا تلهينا مع ذلك عن ثلاثة مواضيع عاجلة - قانونية واقتصادية - تستحق اهتمامًا مبكرًا من الدولة حتى لا نفاجأ بها تلاحقنا دون استعداد:
الموضوع الأول هو ضرورة تكوين لجنة قومية على أعلى مستوى من أجل إعداد تقرير شامل فيما جرى من البداية إلى النهاية، يعبر عن وجهة نظر مصر بمصداقية وشفافية ويفرض وجوده على الساحة الدولية. هذا تقليد عالمى علينا أن نتبعه، لأن ترك الساحة فارغة أو الاكتفاء بتقارير وبيانات الجهات الرسمية التقليدية يفتح بابًا واسعًا للاجتهاد من كل الأطراف، قد يكون بعضها نزيهًا وباحثًا عن الحقيقة، وقد يكون بعضها الآخر راغبًا فى استغلال الفرصة من أجل هز الثقة العالمية فى قناة السويس. لهذا يجب أن تملأ مصر هذا الفراغ بتقرير وطنى علمى، لا يجمل ولا يبالغ، بل يقدم كشفًا للحقيقة ليحسم بها أى شائعات أو روايات غير سليمة. وحبذا لو ضمت هذه اللجنة الوطنية، ليس فقط عناصر من داخل أجهزة الدولة، بل أيضا من الكفاءات المصرية المستقلة المشهود لها دوليا لدعم مصداقية ما تقرره.
الموضوع الثانى أن علينا إدراك أن حدثًا بهذا الحجم وهذا التأثير على الاقتصاد والتجارة العالميين لن يمر مرور الكرام أو ينتهى بابتسامات وتحيات ومجاملات، بل ستكون له تداعيات قانونية ومالية لا محالة، لا أحد يعلم أبعادها أو حجمها بعد: السفن والبضائع الواقفة بضعة أيام، والتعويضات المتبادلة بين الشركات الدولية، والتأمينات البحرية، والتكاليف والرسوم الإضافية.. كل هذا يمكن أن يفتح مجالًا لمنازعات قانونية دولية قد تصل لساحات التحكيم، وعلينا أن نكون مستعدين لهذا أيضا كى لا نفاجأ بكل طرف يجهز أوراقه، وكى لا يضيع أيضا علينا حق المطالبة بالتعويض عن أخطاء الآخرين. لهذا أنصح الدولة بأن تستعد بدراسة قانونية «استباقية» تعدها لجنة من الخبراء القانونيين الوطنيين، ولدينا فى إدارة التحكيم بوزارة العدل، وفى وزارة الخارجية، وفى كليات الحقوق، وبين كبار المحامين مَن هم أهل لها.
أما الموضوع الثالث، فيرتبط بالمنطقة الاقتصادية الخاصة الواقعة على ضفة القناة الغربية. كم من التعليقات فاضت فى الأيام الماضية عن أهمية القناة، وما تضيفه للاقتصاد القومى فى شكل رسوم العبور والخدمات المقدمة للسفن العابرة!. ولكن الواقع أن هذا كله قليل جدا مقارنة بما يمكن أن يضاف للاقتصاد المصرى لو جرى النهوض بتلك المنطقة الاقتصادية وربطها بالتجارة العالمية العابرة بحيث تصبح مصر - كما يجدر بها أن تكون - حاضنة لمركز صناعى وخدمى وتجارى لا يقل عن أكبر المراكز العالمية المثيلة. وفى هذا الموضوع بالذات فإن الفرصة سانحة، لأنه بعد سنوات طويلة من التردد والاضطراب لدينا الظروف المواتية أكثر من أى وقت مضى: الإطار القانونى لا بأس به، وللمنطقة رئيس مشهود له بالكفاءة والنزاهة والخبرة والنشاط، والسيد رئيس الجمهورية يتابع الموضوع بشكل مستمر، والعالم يبحث عن فرص اقتصادية جديدة يتعامل بها مع عالم ما بعد «كورونا»، والمنظمات الدولية مهتمة، والقطاع الخاص المصرى لن يتأخر. ما الذى ينقصنا إذن؟.. ينقص فقط ربط كل هذه العناصر ببعضها البعض، وإطلاق يد المسؤول عن المنطقة وتحريره ومن معه من القيود البيروقراطية، وإعادة رفع الموضوع للمستوى الذى يستحقه، وحشد كل الطاقات لإنجاحه.
الاحتفال بتحرير السفينة وعودة الملاحة المنتظمة ضرورى ومستحق، وقد رفع العاملون فى هيئة قناة السويس رؤوسنا عالية، ولهم كل تقدير واحترام.. ولكن دعونا نفكر من الآن فيما سيأتى، ونستعد له ونستغل الحماس الذى أطلقته هذه الأزمة كى نتقدم خطوات أخرى.