ليس من عادتى التوقف وانتقاد كلمة معينة أو تعبير قد يصدر من أحد المسؤولين على عجالة أو فى ظرف خاص لاعتقادى أن هذا يدخل فى بند «التصيد» الذى لا يليق بقضايا جادة.
ولكن حينما تتكرر المفاهيم والرسائل، فإننا نكون بصدد أفكار وسياسات أكثر اتساقًا، ولهذا فاسمحوا لى بتناول بعض المفاهيم الرئيسية التى جرى طرحها على الساحة الاقتصادية خلال الأسابيع الأخيرة:
المفهوم الأول، أننا فى حالة اقتصاد حرب أو مقبلون عليها. وأظن أنه كان تعبيرًا غير موفق وقد سبب للبلد ضررا بالغا. فنحن - والحمد لله - لسنا فى حالة حرب ولا فى ظروف تستدعى اقتصاد الحرب. ومجرد طرح الفكرة الآن بالغ الغرابة فى الوقت الذى يسعى فيه البلد لإعادة جذب الاستثمار الخاص المحلى والأجنبى، ويجتهد فيه وزيرا الاستثمار والمالية الجديدان لبث روح الثقة فى المجتمع الاستثمارى.
كذلك فإن تعبير اقتصاد الحرب ليس تعبيرا مرسلا، بل له معان ودلالات مستقرة (وان لم تكن محل تعريف قانونى)، أهمها وضع كل موارد البلد بما فيها الملكيات الخاصة تحت تصرف المجهود الحربى وقيام الحكومة بإصدار قرارات استثنائية فى كافة المجالات الاقتصادية والإدارية والجنائية.
فهل هناك ما يستدعى ذلك فعلا مما لا نعلمه؟ أم أن هناك قرارات استثنائية جار التفكير والإعداد لها؟ أم أن تعبير اقتصاد الحرب جاء ليضاف إلى الأسباب التى يستند إليها الخطاب الرسمى فى تبرير الأزمة الاقتصادية التى تعرضنا لها والغلاء الذى يعيشه الناس؟ أيا كان السبب فالمهم ألا يكون تعبير اقتصاد الحرب يمهد لقرارات وإجراءات استثنائية وغير مطلوبة تضر بالمناخ الاستثمارى الذى نحاول بث الروح فيه.
المفهوم الثانى الذى أود التوقف عنده هو أن التصدير جيد والاستيراد سيئ وبالتالى فعلينا السعى لإنتاج ما يحتاجه البلد كى لا نضطر لاستيراده. ومع أن ضبط ميزان المدفوعات والاستغناء عن نزيف القروض الأجنبية يحتاج فعلا لزيادة التصدير والحد من الاستيراد، إلا أن هذا لا يعنى اعتماد ما يسمى بسياسة إحلال الواردات التى تخلى عنها العالم من عقود طويلة.
علينا زيادة الإنتاج طبعا وزيادة التصدير طبعا، ولكن فيما يكون فيه ميزة تنافسية لمصر وليس فى كل ما يمكن إنتاجه. والسبب الذى استقر عليه الاقتصاديون أننا لو بدأنا فى إنتاج ودعم البديل المحلى لأى صنف نقوم فى الوقت الحالى باستيراده، فإن هذا قد يدفعنا لتبديد الموارد على صناعات ومنتجات لا نتمتع فيها بميزة نسبية وسيكون إنتاجنا منها إما أغلى من غيرنا أو أسوأ. بينما لو وضعنا مواردنا فيما نتميز به فإن إنتاجنا سيكون أكثر تنافسية وبالتالى أكثر كفاءة فى الإنتاج وأقل سعرا من الغير وأفضل فى الجودة، ما يعنى أنه قابل للتصدير وجلب العملات الأجنبية.
طبيعى أن يخرج من هذه القاعدة المنتجات التى يعتبرها كل بلد «استراتيجية» سواء أغذية معينة أو حبوب رئيسية أو أدوية لا يمكن الاستغناء عنها بجانب طبعا الصناعات العسكرية. ولكن خارج إطار المستلزمات الاستراتيجية، فإن موارد الدولة والقطاع الخاص ينبغى أن يتوجها لما فيه ميزة نسبية لمصر (أو يمكن تحقيق فيه ميزة نسبية مع مزيد من الاستثمار والتكنولوجيا والتدريب) وليس بالضرورة لما يحد من الاستيراد لو كان سيدفعنا إلى إنتاج بلا كفاءة.
أما المفهوم الثالث الذى يستحق التفكير فهو أن تشجيع الصناعة معناه السعى لفتح كل المصانع المغلقة خلال السنوات الماضية. وأذكر هذا الموضوع بمناسبة التوجه الحالى لدعم الصناعة المصرية والنشاط الواضح فى إزاله معوقاتها بعد سنين من الخمول والإهمال. ولكن إن كانت النية نبيلة بلا شك فى فتح المصانع وتشغيل العمالة وتدوير المعدات المعطلة، فإن هناك تفرقة ضرورية بين المصانع التى توقفت بسبب ظروف اقتصادية أو تجارية عابرة (تضخم مفاجئ فى مدخلات الإنتاج، تعثر فى الحصول على مصدر طاقة، تغير فى سعر الصرف، تسويق ضعيف، هيكل تمويل مختل، أو حتى مجرد بداية مضطربة) وهذه تكون قابلة للإنقاذ والتصحيح والعودة للمسار الإنتاجى.. وبين المصانع التى تعثرت لأن إنتاجها لم يعد مطلوبا فى السوق أو لأن تمويلها تم استهلاكه فى إنفاق شخصى بالمخالفة للقانون أو لأنها اعتمدت على تكنولوجيا لم تعد ملائمة أو غير ذلك من الأسباب الهيكلية التى لا ينفع معها تصحيح ولا تدخل، فإن محاولة إنقاذها لن تؤدى إلا لمزيد من هدر الموارد وتضخم المشكلة القائمة بالفعل وتفويت فرصة استخدام الأصول الباقية يما يكون أكثر نفعا.
ولا أقترح إهمال هذه المصانع وعمالها وتركهم للضياع، بل الحل الاقتصادى السليم هو المساعدة على تصفيتها بحيث يعاد استخدام الأرض المقام عليها المصنع ويعاد تدوير ما يصلح من معداتها ويعاد تدريب عمالها وتمكينهم من الالتحاق بمجال آخر واعد بدلا من ربط مصيرهم بصناعة محكوم عليها بالاندثار.
قد يبدو ما سبق لكم عودة لمواضيع معروفة ومستقرة أو لم تعد جديرة بالنقاش، ولكن تعلمت أن أهم الأمور أبسطها، وأن ضبط المفاهيم الأساسية يوفر الكثير من الجهد والوقت والموارد فيما بعد. فدعونا نناقشها الآن لأن تجاهلها قد يكون ثمنه كبيرا فيما بعد.