توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العدالة قبل الديمقراطية

  مصر اليوم -

العدالة قبل الديمقراطية

بقلم - زياد بهاء الدين

هناك انحسار واضح للديموقراطية فى كل أنحاء العالم، فى الدول النامية ذات الحكومات المستبدة، كما فى الدول الآسيوية التى حققت نموا اقتصاديا فى غياب الحريات السياسية، وحتى فى تلك الدول التى استقرت لديها البرلمانات والأحزاب والحياة النيابية لمئات السنوات.

الملفت أن هذا الانحسار لم يكن فى كل الأحوال نتيجة لاستبداد الحكومات وزيادة قدرتها وكفاءتها على كبت الحريات، ولا رد فعل عابر لانتخابات برلمانية أو رئاسية فى بعض البلدان المتفرقة، بل تعبيرا عن تراجع اهتمام الناس بقيمة الديمقراطية وضعف ثقتهم فى الأحزاب والنشاط السياسى واقتناعهم بأن فساد الساسة والعاملين فى المجال العام وانشغالهم بالاضواء وبالمصالح الخاصة وراء كثير من مشاكل المجتمع.

فى هذا السياق نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية أخيرا تقريرا مطولا عن هذا الموضوع، انتهى إلى أن الاتجاه العالمى المعادى للديمقراطية يعبر عن تحول عميق له أصول وجذور ترجع إلى مصدرين: الأزمات المالية الكبرى فى نهاية القرن العشرين وما نتج عنها من فقدان الثقة فى نموذج التنمية الديمقراطية الليبرالية، ونجاح الصين وغيرها من الاقتصادات الأسيوية فى تقديم نموذج بديل للنمو الاقتصادى فى غياب الحريات السياسية. ولعلى أضيف من جانبى مصدرا ثالثا وهو القلق المتزايد فى أوروبا بالذات من الهجرة غير الشرعية وما تثيره من مخاوف متعلقة بالإرهاب والعنف وتدفع الناس بعيدا عن ثقافة التعدد وقبول الآخرين.

ومع تباين طبيعة وأسباب ومظاهر انحسار الديمقراطية بين مختلف الدول والانظمة، الا اننا مع ذلك جزء من هذا العالم الذى يشهد تراجعا لقيمة الديمقراطية ولمؤسساتها ولأدواتها التقليدية. أن يكون ذلك بسبب سياسات الدولة المقيدة للحريات، أم سيطرتها على الإعلام والمجال العام، أم لتعثر تجربتنا الحزبية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهى أن الديموقراطية ليست فى الوقت الحالى مطلبا شعبيا ولا تثير حماسا لدى الناس، بل صارت لدى قطاع كبير من المجتمع مرادفا للفوضى ومصدرا للخوف من غياب الأمن والاستقرار.

ولكن الواقع ان الديموقراطية لم تكن أبدا هدفا فى حد ذاتها ولا ينبغى أن تكون كذلك، بل انها تستمد قيمتها من كونها الوسيلة الأفضل لتحقيق أهداف سامية فى المجتمع، على رأسها العدالة والمساواة والحرية والشراكة فى الحكم والرقابة على السلطة التنفيذية. وان تحولت الديموقراطية إلى مجرد طقوس وإجراءات لا تحقق تلك الأهداف فإنها لا تكون ذات قيمة ولا فائدة للمجتمع. كذلك فإن المجتمع لو نجح فى تحقيق تلك الأهداف السامية، فلا يهم إن كانت تسمية نظامه السياسى ديمقراطية أم شراكة أم حوكمة أو ألا يكون له اسم على الإطلاق. المهم هو المضمون وليس المسميات.

وأهم تلك الأهداف السامية على الإطلاق هو العدالة، لأنها وحدها الضامن لكل حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فلا قيمة لدستور جيد لو لم يحمه قضاء مستقل، ولا لنصوص قانونية حديثة وعادلة لو لم يجر تطبيقها بشكل سليم، ولا لحريات التعبير والعمل والملكية والإبداع لو لم يكن وراءها نظام قانونى وقضائى يمكن كل من مواطن من التمتع بها بشكل كامل، ولا لنصوص تكفل المواطنة والمساواة لو كانت الدولة منحازة والقضاء غير عادل.

وما أقصده هنا بالعدالة ليس مجرد السير المعتاد للمحاكم والنيابات ولا ان يصدر البرلمان عشرات القوانين كل عام، بل قيمة القانون والعدل فى المجتمع، بمعنى اقتناع كل مواطن بأن النظام القانونى عادل ولا يميز بين الناس أو ينتصر للأكثر نفوذا أو مالا أو سطوة، وان النص القانونى يجرى تطبيقه على الجميع بلا تفرقة أو انحياز من أى نوع.

دعونا إذن لا نهمل الديمقراطية ولا ننسى الحقوق التى كفلها الدستور، ولكن الاولوية فى الوقت الراهن يجب ان تكون لاعلاء راية العدل واحترام القانون. والعدالة هى المطلب الذى لا يمكن ان يكون محل خلاف، لان كل مواطن يعلم ان لا أمان لنفسه ولعائلته ولممتلكاته ولحريته فى غياب العدالة، وان الظلم والانحياز فى تطبيق القانون لا يحققان لا نموا اقتصاديا ولا تنمية بشرية ولا نهضة حقيقية.


نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العدالة قبل الديمقراطية العدالة قبل الديمقراطية



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon