بقلم - زياد بهاء الدين
هناك انحسار واضح للديموقراطية فى كل أنحاء العالم، فى الدول النامية ذات الحكومات المستبدة، كما فى الدول الآسيوية التى حققت نموا اقتصاديا فى غياب الحريات السياسية، وحتى فى تلك الدول التى استقرت لديها البرلمانات والأحزاب والحياة النيابية لمئات السنوات.
الملفت أن هذا الانحسار لم يكن فى كل الأحوال نتيجة لاستبداد الحكومات وزيادة قدرتها وكفاءتها على كبت الحريات، ولا رد فعل عابر لانتخابات برلمانية أو رئاسية فى بعض البلدان المتفرقة، بل تعبيرا عن تراجع اهتمام الناس بقيمة الديمقراطية وضعف ثقتهم فى الأحزاب والنشاط السياسى واقتناعهم بأن فساد الساسة والعاملين فى المجال العام وانشغالهم بالاضواء وبالمصالح الخاصة وراء كثير من مشاكل المجتمع.
فى هذا السياق نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية أخيرا تقريرا مطولا عن هذا الموضوع، انتهى إلى أن الاتجاه العالمى المعادى للديمقراطية يعبر عن تحول عميق له أصول وجذور ترجع إلى مصدرين: الأزمات المالية الكبرى فى نهاية القرن العشرين وما نتج عنها من فقدان الثقة فى نموذج التنمية الديمقراطية الليبرالية، ونجاح الصين وغيرها من الاقتصادات الأسيوية فى تقديم نموذج بديل للنمو الاقتصادى فى غياب الحريات السياسية. ولعلى أضيف من جانبى مصدرا ثالثا وهو القلق المتزايد فى أوروبا بالذات من الهجرة غير الشرعية وما تثيره من مخاوف متعلقة بالإرهاب والعنف وتدفع الناس بعيدا عن ثقافة التعدد وقبول الآخرين.
ومع تباين طبيعة وأسباب ومظاهر انحسار الديمقراطية بين مختلف الدول والانظمة، الا اننا مع ذلك جزء من هذا العالم الذى يشهد تراجعا لقيمة الديمقراطية ولمؤسساتها ولأدواتها التقليدية. أن يكون ذلك بسبب سياسات الدولة المقيدة للحريات، أم سيطرتها على الإعلام والمجال العام، أم لتعثر تجربتنا الحزبية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهى أن الديموقراطية ليست فى الوقت الحالى مطلبا شعبيا ولا تثير حماسا لدى الناس، بل صارت لدى قطاع كبير من المجتمع مرادفا للفوضى ومصدرا للخوف من غياب الأمن والاستقرار.
ولكن الواقع ان الديموقراطية لم تكن أبدا هدفا فى حد ذاتها ولا ينبغى أن تكون كذلك، بل انها تستمد قيمتها من كونها الوسيلة الأفضل لتحقيق أهداف سامية فى المجتمع، على رأسها العدالة والمساواة والحرية والشراكة فى الحكم والرقابة على السلطة التنفيذية. وان تحولت الديموقراطية إلى مجرد طقوس وإجراءات لا تحقق تلك الأهداف فإنها لا تكون ذات قيمة ولا فائدة للمجتمع. كذلك فإن المجتمع لو نجح فى تحقيق تلك الأهداف السامية، فلا يهم إن كانت تسمية نظامه السياسى ديمقراطية أم شراكة أم حوكمة أو ألا يكون له اسم على الإطلاق. المهم هو المضمون وليس المسميات.
وأهم تلك الأهداف السامية على الإطلاق هو العدالة، لأنها وحدها الضامن لكل حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فلا قيمة لدستور جيد لو لم يحمه قضاء مستقل، ولا لنصوص قانونية حديثة وعادلة لو لم يجر تطبيقها بشكل سليم، ولا لحريات التعبير والعمل والملكية والإبداع لو لم يكن وراءها نظام قانونى وقضائى يمكن كل من مواطن من التمتع بها بشكل كامل، ولا لنصوص تكفل المواطنة والمساواة لو كانت الدولة منحازة والقضاء غير عادل.
وما أقصده هنا بالعدالة ليس مجرد السير المعتاد للمحاكم والنيابات ولا ان يصدر البرلمان عشرات القوانين كل عام، بل قيمة القانون والعدل فى المجتمع، بمعنى اقتناع كل مواطن بأن النظام القانونى عادل ولا يميز بين الناس أو ينتصر للأكثر نفوذا أو مالا أو سطوة، وان النص القانونى يجرى تطبيقه على الجميع بلا تفرقة أو انحياز من أى نوع.
دعونا إذن لا نهمل الديمقراطية ولا ننسى الحقوق التى كفلها الدستور، ولكن الاولوية فى الوقت الراهن يجب ان تكون لاعلاء راية العدل واحترام القانون. والعدالة هى المطلب الذى لا يمكن ان يكون محل خلاف، لان كل مواطن يعلم ان لا أمان لنفسه ولعائلته ولممتلكاته ولحريته فى غياب العدالة، وان الظلم والانحياز فى تطبيق القانون لا يحققان لا نموا اقتصاديا ولا تنمية بشرية ولا نهضة حقيقية.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع