بقلم : زياد بهاء الدين
ثمانية وستون عامًا بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ولا يزال النقاش محتدمًا بين أنصارها وخصومها. فريق يبالغ فى وصف إنجازاتها ومكاسبها ويأبى أن يعترف بأى من مساوئها، وفريق ثانٍ لا يرى لها أى انتصار أو إنجاز ويبالغ فى تحميلها مسؤولية كل ما أصاب مصر من مشاكل وأزمات حتى وقتنا الراهن.
وأبادر بتوضيح أننى ممن يعتبرون ثورة ٢٣ يوليو أحد أهم الأحداث فى تاريخ مصر المعاصر، وأنها ثورة بما حققته من مطالب الشعب فى الاستقلال وجلاء الاستعمار، وما جلبته من تغيير اجتماعى كبير، وأن وقوعها كان حتميًا بسبب ما كان قد أصاب النظام السياسى من ترهل ووهن وعجز عن مواكبة تطلعات الناس وتحقيق آمالهم.
مع ذلك فإن هذا التقدير لا يمنعنى من إدراك أن نظام «يوليو» نجح فى تحقيق بعض أهدافه وفشل فى غيرها. نجح فى بناء قاعدة صناعية حديثة ولكن اندفع فى السيطرة والتخطيط المركزى وإدارة الموارد فتعثر فى باقى جوانب الاقتصاد. ونجح فى فتح أبواب التعليم والعلاج والعمل لأبناء الشعب ولكن لم يحافظ على القطاع الخاص الناشئ، الذى كان يمكن أن يكون شريكًا مخلصًا فى التنمية الاقتصادية. ونجح فى حشد طاقات الأمة العربية وإطلاق أحلامها ولكن خسر المعارك الكبرى على الأرض ومعها الأرض ذاتها. وانحاز إلى الشعب والعمال والفلاحين والطبقة الوسطى ولكن حرم الجميع من حرياتهم ومن المشاركة فى حكم ديمقراطى. وانتصر للعدالة الاجتماعية ولكن عصف بعدالة القانون وبالقضاء وبالدستور. لهذا فإن الانحياز الكامل مع الثورة أو ضدها لا يعبر عن واقع ما جرى ولا يفسر حاضرنا ولا يساعدنا على التفكير فى المستقبل.
والواقع أننا اليوم بحاجة إلى التفكير فى طبيعة نظام «يوليو» وأسباب ومظاهر نجاحه أو فشله، ليس لمجرد البحث الأكاديمى أو لاستكمال الخلاف الأيديولوجى، بل لأن العالم الذى صنعته ثورة يوليو بكل مكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية لا يزال هو العالم الذى نعيش فيه إلى الآن.
على المستوى السياسى فإن ثورة يوليو أنهت التجربة البرلمانية الليبرالية، التى ظلت تختمر منذ مطلع القرن وتسارعت بعد ثورة ١٩١٩ وتأزمت بعد الحرب العالمية الثانية، وحل محلها نظام حكم جديد تلعب فيه المؤسسة العسكرية الدور القيادى، وهذا وضع لا يزال مستمرًا.
وعلى المستوى الاقتصادى فإن الثورة رسّخت تدخل الدولة فى الاقتصاد وسيطرتها عليه سواء عن طريق الملكية المباشرة فى ظل نظام شبه اشتراكى أو عن طريق التحكم عن بُعد فى ظل نظام شبه رأسمالى. وهذا وضع لم يتغير كثيرًا، وكلما انحسر عاد إلى استرداد مكانته السابقة. والخطاب الاقتصادى الذى صاحب ثورة يوليو بشأن العدالة الاجتماعية، وحماية المال العام، والرقابة على الأسواق، وتكافؤ الفرص، لا يزال الخطاب الغالب والمعبر عن التفكير الاقتصادى السائد داخل الدوائر الحكومية وخارجها، بغض النظر عن مضمون مفرداته.
وعلى المستوى الاجتماعى فإن «يوليو» أطلقت العنان لنشوء طبقة وسطى جديدة وواسعة وقوية لا تزال إلى يومنا هذا- رغم الشكوى والتوقعات بتراجعها وتضاؤلها- العمود الفقرى للمجتمع والبيروقراطية والقيم السائدة، وهى فى رأيى صمام الأمان والاستقرار فى البلد، كما أنها مربط الفرس فى إحداث أى تغيير كبير فى المجتمع كما جرى مع ثورتى يناير ٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣.
أما فى جانب العدالة فإن تراث «يوليو»- تأثرًا بروح العصر وأدبياته- أعاد صياغة مفهوم دولة القانون، وحارب استقلال القضاء، ودفع مرفق العدالة فى اتجاه أن يكون أداة لتحقيق الأمن وحماية الاستقرار على حساب حماية الحقوق وتحقيق العدالة، وهو تراث رسّخ فى الأذهان ولا يزال محور صراع مكتوم فى المجتمع.
لهذا فإن فهم حاضرنا والتفكير فى مستقبلنا يقتضيان النظر فيما جلبته الثورة من تغيير مجتمعى عميق واستيعاب أصوله وتداعياته، الإيجابى منها والسلبى، فسواء كرهنا الثورة أو أُعجبنا بها، وهذا خلاف طبيعى ولا بأس به، فإن التغييرات العميقة التى جلبتها لا تزال تشكل عالمنا اليوم وتحدد الكثير من المعايير التى نقيس بها الأشياء ولو بغير وعى كامل بأصولها. والتعامل معها بموضوعية والحوار الهادئ بشأنها مطلوب اليوم من جانب المتخصصين كل فى مجاله لكى نتعرف ويتعرف أبناؤنا على حاضرنا وكيف تَشَكّل، ويستفيدوا من إيجابيات وسلبيات العقود السبعة الماضية من أجل التقدم مستقبلًا.