تعرفت على «يوستينا سمير»، مديرة ومخرجة «فرقة مسرح بانوراما برشا»، لأول مرة فى «مهرجان الصعيد المسرحى الثالث»، الذى نظمته جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين فى أسيوط عام2018. لم تكن الفرقة مشاركة فى المهرجان، ولكن حضرته «يوستينا» بصفتها مخرجة شابة من الصعيد، وعرّفتنى بنفسها فى نهاية المهرجان بأن أختها «تيريز»، زميلتى فى النشاط الحزبى فى أعقاب ثورة يناير، ومرشحة البرلمان عن مركز «ملوى» بالمنيا قبل أن تهاجر إلى أمريكا منذ سنوات... ثم سعدت بأن «فرقة البرشا» شاركت فى «ملتقى الدوير لإبداعات وفنون الطفل» الذى نظمه «مركز أحمد بهاء الدين الثقافى» فى قرية «الدوير» بأسيوط فى سبتمبر الماضى.. لهذا كانت مفاجأة سارة للغاية أن أتابع دعوة فيلم «رفعت عينى للسما» التسجيلى، الذى يرصد تجربة «فرقة البرشا» للمشاركة فى مهرجان «كان» السينمائى، ثم مفاجأة أكبر بكثير أن يفوز الفيلم الذى أخرجه المخرجان (والزوجان) «ندا رياض» و«أيمن الأمير» بجائزة «العين الذهبية» فى المهرجان.
والحقيقة أن قصة ومسيرة «فرقة البرشا» تستحق كل إعجاب وتقدير، وقد رواها الدكتور محمد أبوالغار فى مقالة جميلة أمس الأول على صفحات هذه الجريدة، وأنصح بالرجوع إليها للتعرف على المزيد من الجوانب العملية والإنسانية من رحلة بنات «البرشا».
مفهوم طبعًا أن نحتفى جميعًا ونسعد بفوز فيلم مصرى فى واحد من أهم المهرجانات السينمائية العالمية، إن لم يكن أهمها جميعًا.. ولكن لاشك أن هذه المناسبة بالذات تستحق ليس الاحتفاء العادى، بل وقفة تفكير وتأمل وتقدير خاص لما تعبر عنه من قيم ومشاعر وحقائق معاصرة لا يجوز تجاهلها أو تجاوزها ببساطة. ليس عاديًا أن يفوز مخرجان من جيل الشباب بمثل هذه الجائزة الرفيعة، ولا أن يكون تقديرًا لعمل متواضع الميزانية والإمكانات، ولا أن يأخذ كل هذا الاهتمام الإعلامى الدولى قبل وبعد فوزه بالجائزة، وهذا كله يستحق كل إعجاب وتقدير.
فإذا أضفنا إلى ما سبق أن موضوع الفيلم ست فتيات من قرية صغيرة فى الصعيد، فى منطقة لم يعرفها المصريون أنفسهم خلال السنوات الماضية إلا بالتوتر الطائفى القبيح، وأن عروضهن بدأت فى مساحات مفتوحة وتناولت مواضيع اجتماعية بالغة الأهمية ولكن ببساطة شديدة، وأنهن اجتهدن سنوات وسنوات دون أن يعلم عنهن الكثيرون، فإن الإعجاب والتقدير يتضاعفان ونصبح أمام ظاهرة فريدة جديرة بالتأمل.
ثم ماذا نتعلم من هذه الملحمة الشبابية الفريدة؟
نتعلم بالتأكيد أن فى مصر مواهب وطاقات مدفونة ولا أحد يعلم عنها شيئًا، أو إذا علم فلا يهتم، لأنها ليست من نوعية المواهب والكفاءات التى تهرع إليها وسائل الإعلام والفضائيات والشركات الراعية. الاستثناءات القليلة تأتى من الشركات والجمعيات والمبادرات ذات الوعى الثقافى. وقد لفت نظرى فيما قرأته عن الفيلم أن الجهة المصرية الوحيدة التى دعمته كانت مهرجان الجونة السينمائى!
نتعلم أيضًا أن وزارة الثقافة تبدو مؤخرًا بعيدة عن دورها الأساسى، وهو رعاية الفن والثقافة والإبداع، خاصة فى المناطق الأكثر احتياجًا. بل صار للأسف من هموم المبدعين والفنانين كيفية التغلب على المعوقات والحصول على الموافقات وتجنب التعامل مع الجهات الرسمية التى يفترض أن تدعم الثقافة (ثم نشتكى من تضاؤل تأثير مصر الثقافى وتراجع قوتها الناعمة!).
ونتعلم أن الفن والإبداع والثقافة هى أدوات التنوير الحقيقى والتحرر الفكرى والتقدم الحضارى، ولكن فقط حينما يكونون نابعين من المجتمع وصادقين فى التعبير عن مشاكله واحتياجاته، ومخلصين فيما يقدمونه من حلول، وقريبين من الجمهور الذى يخاطبونه. أما الخطاب الثقافى الذى يبدأ متعاليًا وبعيدًا عن الناس فلا مفر من أن ينتهى ضعيفًا ومهملًا.
وأخيرًا- وهذا انحياز صعيدى لا أنكره- فأرجو أن تفتح مسيرة «فرقة البرشا» وفيلم «رفعت عينى للسما» العيون والأذهان لحقيقة المجتمع الصعيدى الذى لا يعرفه الكثيرون إلا من خلال أعمال درامية بالغة السطحية، وأفكار قديمة منبتّة الصلة بالواقع.
الصعيد فيه تقاليد قديمة، وعائلات ذات سطوة وقسوة فى العيش، وندرة فى الموارد، ومعدلات للفقر أعلى من المتوسط القومى.. كل هذا صحيح، ولكن فى الصعيد أيضًا أصالة وترابط ودأب وإصرار على التقدم، وفيه تطور اجتماعى لافت خاصة بين الشبان والشابات نتيجة لتطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وفيه رغبة واستعداد للتغيير وطاقات ومواهب تبحث عن الفرص. هذا ليس وصفًا مثاليًا للصعيد، بل محاولة للتأكيد على أنه ليس نموذجًا جامدًا لا يتغير ولا يتطور، بل محلًا لتفاعل مستمر بين القديم والجديد، بين التقليدى والحديث، بين الأجيال والثقافات المختلفة، وساحة لصراعات صغيرة يومية على موارد محدودة وفرص قليلة، وبين أفكار وممارسات تتنافس كل يوم على كل تفصيلة حياتية.
ولكن من وقت لآخر.. تخرج علينا تجربة رائعة كتلك التى قامت بها فتيات «البرشا» ونقلها إلينا المخرجان «ندا» و«أيمن»، لا لكى تبقى للأبد وحيدة وفريدة، بل لتذكّرنا بأن فى الصعيد وفى مصر كثيرين آخرين يستحقون أن نراهم وندعمهم ونضع ثقتنا فيهم.