بقلم - زياد بهاء الدين
لقمامة من الساحة المجاورة، ومع أنه شفى من الجذام بعد حين، إلا أن المرض ترك آثاره الواضحة على جسمه وعلى وجهه، فلما توفيت زوجته وضاقت به الدنيا، قرر أن يسافر إلى قريته التى سمع أنها تقع بمحافظة قنا ليبحث عن أصله وعن أهله ويسألهم لم نبذوه صغيرا ولم يسألوا عنه من يومها، والفيلم هو هذه الرحلة الشاقة والكاشفة التى يصاحب «بشاى» فيها الفتى الأسمر محمد «أوباما» ذو الأصل السوهاجى والهارب من دار الأيتام، ومعهما حمار «بشاى» الوفى. وخلال الرحلة يكشف لنا الفيلم عن حجم الانحياز فى المجتمع ضد المرضى والضعفاء، والنفور ممن أصابتهم عاهات أو تشوهات، والقسوة التى يتعامل بها الناس مع المنبوذين لأى سبب.
موضوع الفيلم قاس، ومشاهد مستعمرة الجذام، وجبال القمامة، والمستوصف الحكومى، ودار الأيتام، والشوارع المزدحمة، والمصارف الطافحة، وعالم اللصوص والبلطجية والمتسولين، تذكرنا بواقع عادة ما يتجاهله الاعلام كى لا يتهم بتشويه صورة البلد أو تعطيل السياحة فيها.
ومع ذلك فإن ما يجعل الفيلم مختلفا ومستحقا فى تقديرى للتقدير والثناء اللذين نالهما أن مخرجه ــ وسأعود إليه بعد قليل ــ لم يتوقف عند التناقضات الاجتماعية الصارخة والبديهية التى كان يمكن بسهولة أن يجعل منها موضوعا محوريا، كما أنه لم يتوقف كثيرا عند المشهد الطائفى البديهى بدوره والذى كان يمكن أن يمثل مادة خصبة وجذابة، بل تجاوز الرسائل السياسية والاجتماعية التى كان يمكن أن يحفل بها الفيلم ليأخذنا إلى مستوى آخر أرفع شأنا، وهو الدعوة للإنسانية، قضية «بشاى» التى اختار الفيلم أن يبرزها ليست أنه فقير فى مجتمع طبقى، ولا أنه مسيحى فى مجتمع طائفى، بل أنه منبوذ بين الناس لأنهم جاهلون بمرضه، وخائفون مما لا يعلمونه، وكارهون للاختلاف، وهذا أبلغ تعبير عن الأزمة الإنسانية فى المجتمع.
ويزيد من إنسانية الفيلم وقوة رسالته أن «بشاى» ليس ممثلا محترفا، بل هو فى الحقيقة «راضى جمال» الرجل الاربعينى من احدى قرى محافظة المنيا والذى أصيب بالجذام فى طفولته وقضى حياته فى مستعمرة أبى زعبل وتعرف على المخرج حينما كان يقوم منذ سنوات بعمل فيلم وثائقى عن المستعمرة. فلما قرر أن يشرع فى عمل فيلم روائى اختار «راضى» للقيام بدور البطولة فجاء حضوره طاغيا ومؤثرا وحقيقيا ومليئا بالحكمة.
بعد الفيلم بقليل التقيت مصادفة بمخرج الفيلم الشاب، «أبو بكر شوقى»، فى الشارع مع أصدقائه وزملائه. وسعدت بلقائه وتحيته بالكلمات المعتادة التى تليق بالموقف. ولكن الحقيقة أن كلمات المجاملة التقليدية لا تكفى للتعبير عما يستحقه المخرج وزملاؤه من تقدير واحترام لإقدامهم على تقديم هذا العمل الشجاع والمؤثر والباعث فى النهاية على التفاؤل لانتصاره لقيم نبيلة.
تحية للمخرج أبو بكر شوقى، ولأبطال الفيلم، ولمن جازفوا بإنتاج هذه المغامرة غير محسوبة العواقب، وتحية لمنظمى مهرجان «الجونة» الذين منحوا الفيلم المكانة التى يستحقها.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع