بقلم - زياد بهاء الدين
لا يكاد يمر علينا أسبوع دون أن تفاجئنا أخبار متداولة بين الناس عن إزالة مبان أو حدائق أو مقابر أو معالم أخرى من تراثنا المعمارى والحضارى العريق.
إن الانطباع المستقر فى أذهان الناس أن الأولوية للتطوير والإزالة والاستثمار العقارى قبل الحفاظ والصيانة، وأن اعتراض سكان المناطق المعنية والمهتمين بالتراث قد ينجح فى إرجاء نزول معول «التطوير» لحين، ولكنه لن ينقذ تراثنا المعمارى من مصيره المحتوم.. قد لا تكون كل هذه المخاوف فى محلها، وقد تكون بعض أعمال الإزالة والتطوير لازمة بالفعل.
ولكن أمرين يبرّران مخاوف الناس: الأول أن ما جرى بالفعل من إزالة لبيوت ومقابر تاريخيّة وإنشاء لمحلات مكان حدائق وهدم معالم تراثية لإفساح الطريق أمام طرق وكبارى ومساكن خاصة ومحال تجارية لم يكن بالقليل. والثانى غياب المعلومات المسبقة عما يخطط له أو آليات للتشاور مع سكان المناطق المعنية والخبراء.
■ ■ ■
دعونا لا نتوقف عند رصد الظاهرة أو الاكتفاء بتفسيرات انطباعية أو إبداء الاستياء، بل نبحث معا فى الأصول المؤسسية لهذه القضية الهامة. وفى تقديرى أن هناك ثلاثة عوامل مؤسسية تستحق التوقف عندها:
هناك أولا «فجوة رقابية» سببها عدم وجود جهة معنية وقادرة على حماية تراث مصر المعمارى والحضارى. وأفرق هنا بين المعالم الأثرية والمعالم التراثية. الأولى لها قانون للآثار يحميها ومجلس أعلى يحرسها ووزارة (السياحة والآثار) يمكن مساءلتها. والقانون صارم والعقوبات شديدة والقائمون عليه - فيما لمسته من التعامل معهم - حريصون على الحفاظ على الآثار. ولكن الآثار وفقا للقانون هو ما جرى تصنيفه على هذا النحو وقيده لدى المجلس الأعلى. أما كل ما يقع خارج هذا التصنيف الرسمى - ما أسميه المعالم «التراثية» - فلا صاحب له ولا رقيب. هناك عدة جهات مرتبطة، جهاز التنسيق الحضارى له دور ولكنه أقرب إلى الاستشارى منه إلى التنفيذى ولا سلطة فعلية لديه.
ووزارة الإسكان مشغولة بالتشييد والبناء أكثر من الحفاظ والصيانة. والمحليات صاحبة الولاية المباشرة جزء من المشكلة لا الحل. ووزارة الثقافة لا يبدو لها دور فى الموضوع. وللأمانة فليس الموضوع كله فى يد الحكومة بل بعض أصحاب العقارات القديمة والمعالم التراثية يفضلون تركها للانهيار - أو دفعها للانهيار - بحثا عن بيعة مجزية لصاحب مشروع سكنى أو مول تجارى. والنتيجة كما قلت إن هناك فراغا فى الإطار المؤسسى للحفاظ على معالم المدن التراثية والحضارية، وفجوة رقابية، وغياب لجهة مختصة وقادرة على الحفاظ على تاريخنا المعمارى.
هناك أيضا غياب لنظام الاستثمار فى الحفاظ على المعالم التراثية. التصور السائد لا يزال بأن الاستثمار التجارى هو الدافع وراء الهدم والإزالة واستبدال مبان تاريخية بمساكن ومحال ومقاهى قبيحة. والحقيقة أن الاستثمار فى التراث موضوع منظم عالميا وله أصول وقواعد وقوانين، وهو وسيلة للحفاظ على الحضارة والمعالم الثقافية للبلد عن طريق توفير التمويل اللازم للصيانة ودفع الشباب للعمل فى مجالات جديدة وجذب السياحة لأماكن مختلفة ومثيرة. وهذا لا يتحقق إلا بوضع نظام لتشجيع الاستثمار التراثى الذى يحافظ ويصون ويجدد ويرفع من شأن المدن القديمة.
وأخيرا فان المدافع الطبيعى عن التراث الحضارى والثقافى هو المجتمع الأهلى ومنظماته التى بطبيعتها أقرب للواقع على الأرض ولفهم قيمة المعالم التراثية والتفاعل مع أهالى المناطق المعنية. ولكن فى ظل انحسار دور المجتمع الأهلى عموما فإن هذه المساحة ضاقت واقتصر المشاركون فيها على المخلصين والمقاتلين بدأب لحماية ملامح حضارية تتراجع وتختفى يوما وراء يوم. هناك قدر من التطوير والتحديث المطلوب فى أى مجتمع، والقضية ليست الحفاظ على أى مبنى قديم أو آيل للسقوط، أو رفض كل مشروع للمنفعة العامة. ولكن هناك توازنا ضائعا بين التطوير والتحديث من جهة وبين الحفاظ والصيانة من جهة أخرى.
نحتاج بالتاكيد لتعديلات تشريعية واختصاصات رقابية جديدة. ولكن نحتاج قبل ذلك لإعادة الاعتبار الذهنى لقيمة مدننا القديمة. ونحتاج لتمكين المجتمع الأهلى من الدفاع عن معالمنا الحضارية التى لا تقدر بمال. ونحتاج من الحكومة أن تتيح المعلومات مسبقا عن مشروعات الإزالة والهدم والاستماع لأصحاب الخبرة والسكان. ونحتاج لتشجيع وتنظيم الاستثمار فى مجال صيانة وتجديد واستغلال المعالم التراثية بما لا يحط من شأنها بل يزيدها قيمة وشهرة ورونقا.
نحتاج فهما وتقديرا لأغلى ما عندنا بدلا من إزالته واستبداله بما هو متاح فى كل مكان آخر من العالم.