توقيت القاهرة المحلي 06:24:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جلال أمين.. ودور المثقف فى المجتمع

  مصر اليوم -

جلال أمين ودور المثقف فى المجتمع

بقلم : زياد بهاء الدين

منذ سنوات ــ أظن عام ١٩٩٦ ــ أتيحت لى فرصة حضور محاضرة ألقاها فى جامعة «كمبريدج» أستاذ الأدب المقارن والكاتب الفلسطينى الراحل «ادوارد سعيد» عن تحليله المعروف عن ثقافة الاستعمار. وأتذكر أن أحد الحاضرين سأله فى نهاية كلمته عن دور المثقف فى المجتمع، فكانت إجابته، بعد تفكير، أن المثقف المستقل هو الذى يعمل على فتح مساحات نقدية جديدة. وقد أعجبنى الوصف وقتها وفهمت أن ما قصده أن مهمة المثقف ليست الدعوة لقضية أو لتيار أو لحزب، فهذا شان أهل السياسة. المثقف المستقل هو الذى يتحدى الأفكار السائدة ويختبرها ويخضعها للتحليل والنقد بغرض تشجيع التفكير الحر وإطلاق طاقات الإبداع وتحرير الناس من سطوة الرؤى الاحادية والجمود الفكرى الذى تفرضه السلطة والمؤسسات المهيمنة على الفكر والبحث والإعلام.

تذكرت هذا الوصف وأنا اقرأ وأتابع خلال الايام القليلة الماضية كلمات الرثاء والتقدير لأستاذى الراحل الدكتور جلال أمين. فقد وصفه المعلقون من قرائه وتلاميذه تارة بأنه كان قوميا عروبيا، وتارة أخرى بأنه كان يساريا مجددا، وبأنه كان أستاذا لامعا فى الجامعة الامريكية، وفنانا وأديبا، وكاتبا ساخرا، وراصدا ومحللا للتغيرات الاجتماعية، ومحرضا على التغيير وعلى التحرر الاقتصادى، وكلها أوصاف حقيقية ويعبر كل منها ليس فقط عن جانب من حياته وشخصيته وإنما أيضا عن مراحل مختلفة فى رحلته الفكرية والمهنية.

ولكن فى تقديرى أن الدكتور جلال أمين كان، وقبل كل شىءآخر، مثقفا مستقلا من النوع الذى وصفه «ادوارد سعيد»، تحمس بالتأكيد لأفكار وقضايا سياسية على نحو ما عبرت عنه كتاباته المبكرة عن الاشتراكية وانحيازه للتيار العروبى بعد عودته من دراسته الجامعية ببريطانيا، ولكنه مع الوقت اتجه لتوجيه طاقته الفكرية الهائلة وثقافته الواسعة وقدرته التحليلية إلى نقد المستقر من الأفكار والشعارات وانارة سبل وزوايا جديدة فى التفكير، ليس بغرض التشكيك فقط أو الهدم فى حد ذاته، بل لكى يساهم فى تحرير العقول وتجديد الافكار ومن ثم البناء والتقدم. ولأنه كان مستقلا بالمعنى الحقيقى، وأقصد بذلك مستقلا ليس فقط عن السلطة الحاكمة بل عن سطوة أى أفكار مسبقة، فلم يسلم من نقده لا الحكومات المتعاقبة ولا الأحزاب والتيارات التى عارضتها، بل لم تسلم أفكاره هو شخصيا من الحالة النقدية المستمرة التى كان يثيرها، ولذلك كانت لديه شجاعة مراجعة أفكاره ومواقفه وإخضاعها لذات آليات النقد والهدم وإعادة البناء التى تعامل بها مع الآخرين. 

شخصيا كانت بداية معرفتى به عن طريق صداقته لوالدى فى نهاية السبعينيات حينما جمعتهما تجربة الاقامة والعمل فى الكويت فى الوقت الذى كانت فيه عاصمة للثقافة العربية المهاجرة بعد سقوط بيروت تحت وطأة الانقسام والحرب الأهلية. وكان الدكتور جلال أمين اقتصاديا لامعا فى الصندوق العربى للتنمية وكاتبا منتظما فى مجلة «العربى» التى رأس تحريرها آنذاك الأستاذ «أحمد بهاء الدين». ولكن المعرفة عن طريق الآخرين غير التعامل المباشر، ولهذا فلم أقترب من الدكتور جلال وأتعرف عليه حقيقة إلا حينما التحقت بدراسة الاقتصاد بالجامعة الامريكية فى مطلع الثمانينيات، فصرت واحدا من المئات الذين تتلمذوا على يديه. وقد تميزت تجربة الدكتور جلال الجامعية الفريدة فى تقديرى بسمتين، الاولى أنه كان ناجحا فى جذب الطلاب والباحثين من كل الاتجاهات، فكان يساريا مجددا ولكن كثيرا ممن خرجوا عن اتجاهه الفكرى وصاروا من نجوم العمل الرأسمالى الخاص اعتبروه أستاذا لهم ظلوا على ولائهم وتقديرهم له. أما السمة الثانية فهى أنه لم يكن مجرد أستاذا لعلم الاقتصاد بل كان معلما للتاريخ والاجتماع والفن ومنتقدا للاقتصاد التقليدى ولأدواته ومناهجه التى اعتبرها قاصرة ومنحازة. 

وقد استمرت علاقتى به بعد ذلك لسنوات طويلة، وكان من مؤسسى «جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين» الثقافية وعضوا بمجلس ادارتها ومشاركا فى لجان تحكيم جوائزها الثقافية، فكان المتقدمون للجائزة يرتعدون من مناقشته لهم وانتقاده لأبحاثهم ولكن يخرجون من المناقشة مبهورين ومعجبين وفخورين بما فعله بهم. أما لقائى الأخير به فكان منذ أشهر قليلة فى منزل الدكتور «احمد جلال» لحضور مناقشة كتاب «أحاديث برقاش» للاستاذ «عبدالله السناوى» عن لقاءاته وحواراته مع الأستاذ الراحل «محمد حسنين هيكل». وكالعادة لم يسلم الكاتب ولا الكتاب ولا موضوعه ولا الضيوف من نقد الدكتور جلال أمين وحرصه المستمر، حتى بعد أن تقدم به العمر، على أن يستثير الحاضرين وينتقد ما يجمعون عليه ويتحدى البديهيات ويطرح أسئلة أكثر مما يقدم من أجوبة.

رحم الله الدكتور جلال أمين، الكاتب والاقتصادى والأستاذ الجامعى والسياسى والمفكر، والمثقف الوطنى المستقل الذى ساهم فى تعليم الأجيال وتحرير العقول ونشر بذرة التفكير الحر التى لا شك ستنبت وتثمر ولو بعد حين.

 

نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جلال أمين ودور المثقف فى المجتمع جلال أمين ودور المثقف فى المجتمع



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon