بقلم - زياد بهاء الدين
لا أتذكر أن الرأى العام المصرى كان متوافقًا على قضية عامة أو كان داعمًا للدولة ومساندًا لموقفها خلال الآونة الأخيرة بقدر ما هو حادث الآن حيال الوضع المأساوى فى غزة.
هذا التوافق العام يدور حول ركائز أربع أساسية: التضامن التام مع أهل غزة فى مواجهة ما يواجهونه من حرب إبادة ومحاولة تهجير، والسعى لفتح قنوات الإغاثة والدعم الغذائى والطبى عبر الحدود المصرية، ثم رفض أى شكلٍ من أشكال التهجير القسرى للفلسطينيين داخل أرض سيناء، وأخيرًا أهمية التوصل لحل دبلوماسى عاجل تجنبًا لاتساع دائرة العنف فى المنطقة.
ولاستمرار هذا التوافق الشعبى أهمية كبيرة فى هذه اللحظة الفارقة؛ لأنه يدعم صمود الشعب الفلسطينى معنويًا وماديًا، ويوحد الصف الداخلى، كما أنه يعيد مصر طرفًا مؤثرًا وفاعلًا فى حسابات المنطقة. هذا الاصطفاف مهم، ولكن قد يكون هناك ما يهدده، وما ينبغى تجنبه، لتجنب أن ينفرط بعد حين.
يهدده إقحام التضامن الشعبى مع المحاصرين فى غزة فى تشابكات سياسية داخلية، كما حدث الأسبوع الماضى. ويهدده كذلك ما يثور فى بعض دوائر الأعمال من أن هناك فرصة سانحة لكى تقايض مصر جانبًا من ديونها الخارجية وأزمتها الاقتصادية بقبول توطين أهل غزة فى سيناء، قياسًا على قولهم بما جرى فى أعقاب حرب تحرير الكويت.. فالحقيقة أن هذا الكلام يجب ألا يُسكت عنه، ولو كان يقال من باب المبالغة أو اللغو غير المدروس؛ لأنه كالسم الذى يمكن أن ينتشر ببطء فى جسد الصف الوطنى.
رسالة الدولة واضحة وصريحة: إنه لا قبول لتهجير الشعب الفلسطينى خارج أرضه، ولا قبول لتصفية قضيته، ولا قبول للتوطين فى سيناء. وعلى الجميع الالتزام بهذا الموقف وتجنب الإساءة إليه بمجرد التفكير فى مقايضة مخجلة.
يهدد الاصطفاف الوطنى أيضًا التوجه المعتاد نحو التضامن البالغ مع الشعب الفلسطينى حينما يكون تحت القصف والحصار، ثم التراجع التدريجى عنه مع مرور الوقت أو تغير الظروف.
صحيح أن العدوان الإسرائيلى الحالى والمرتقب على غزة وأهلها - للأسف الشديد - لا يُنسى أحدًا حجم المأساة الإنسانية الفلسطينية، إلا أنه من الضرورى ألا ينفرط الاصطفاف الشعبى وراء الشعب الفلسطينى وقضيته مهما طالت المواجهة.. والأرجح أن تطول، بل يظل الاهتمام والدعم الإعلامى والسياسى والشعبى وراءها مستمرًا.
وأخيرًا، من الضرورى أن يكون واضحًا أن التضامن مع الشعب الفلسطينى هو فعلًا مع الشعب ومع أهل غزة، ومع أهل الضفة، ومع اللاجئين فى الدول المجاورة، وليس مع تيار سياسى معين أو فصيل داخل الحركة الفلسطينية.. والاعتقاد بأن هذا التضامن الشعبى يعبر أيضا عن مساندة حركة حماس أو الجهاد الإسلامى أو منظمة التحرير أو غيرهم من الفصائل الفلسطينية أو حتى السلطة الفلسطينية الرسمية ذاتها ليس فى محله.
ويفتح خلافات كثيرة ليس الوقت مناسبا لإثارتها.. وأى محاولة لـ«تسييس» الدعم المصرى وراء الشعب الفلسطينى لن تؤدى إلا إلى انفراط عقد الاصطفاف الوطنى والقومى الذى يحيط بأهل غزة الآن، وهذا موقف - لو تعلمون - بالغ القيمة والأهمية ويجب الحفاظ عليه.
العالم، ونحن معه، فى انتظار ما ستسفر عنه الساعات والأيام القادمة، سواء اجتياحًا إسرائيليًا، أو استمرارًا للحصار والقصف والتجويع، أو نجاحًا للدبلوماسية. وفى كل الأحوال، فإن الوقوف بجانب غزة وأهلها ضرورى، ويجب أن يستمر.