بقلم : زياد بهاء الدين
خلال الأسابيع القليلة الماضية، طالعتنا وسائل الاعلام بالعديد من الأخبار والتصريحات المتعلقة بالشركات والأصول المملوكة للدولة أو التى يساهم فيها المال العام. وسوف استخدم هنا تعبير «القطاع العام» للإشارة إلى كل هذه الشركات مع اختلاف أنواعها والنظم القانونية الخاضعة لها.
من بين هذه الأخبار، القرار الذى اتخذته الجمعية العامة للشركة القابضة للتعمير والاسكان بتصفية الشركة القومية للاسمنت، والقرار الحكومى بطرح نسب متفاوتة من أسهم بعض شركات القطاع العام للتداول فى البورصة، وتصريح السيد وزير قطاع الاعمال العام بأن الدولة لن تتحمل استمرار نزيف خسائر الشركات، وبدأ تأسيس صندوق مصر السيادى وتعيين ادارته، ثم أخبار كثيرة عن المشروعات والشركات الجديدة التى تقوم الدولة بإنشائها فى مختلف المجالات بواسطة أجهزتها المدنية والعسكرية.
فما الذى يجرى بالضبط للقطاع العام؟ هل هو تطوير، أم خصخصة، أم تصفية للوحدات الخاسرة؟ أم على العكس من ذلك توسع فى النشاط الاقتصادى للدولة من خلال شركات ومشروعات جديدة؟
شخصيا لست ضد بيع شركات وأصول القطاع العام بشكل مطلق طالما كان وراء ذلك مبرر واضح ومقنع وسياسة متسقة مع نفسها، بقدر ما أننى لست أيضا مع بيع وتصفية القطاع العام فى كل الأحوال لمجرد الانحياز الايديولوجى. الطبيعى أن يكون للدولة سياسة محددة تستند اليها فى تحديد ما يتم بيعه أو تصفيته وما يجرى العمل على تطويره والاحتفاظ بملكيته وفقا لرؤية واضحة المعالم عن الدور الاقتصادى للدولة. ولكن ما يبعث على الحيرة والقلق معا هو التناقض بين السياسات.
فإن كان المستهدف من اعادة احياء برنامج الخصخصة أو توسيع قاعدة ملكية الشركات العامة هو تقليص دور الدولة فى المجالات الاقتصادية المختلفة واتاحة الفرصة لنمو القطاع الخاص، فان هذا لا يتسق مع التوسع المستمر فى نشاط الدولة فى مجالات ومشروعات جديدة، كثير منها ينافس القطاع الخاص بشكل مباشر ويعطل نموه دون أن يكون ذا أهمية استراتيجية خاصة.
وان كانت الدولة تسعى لتصفية الشركات الخاسرة من أجل وقف النزيف الذى يرهق الموازنة العامة ويستهلك الموارد المطلوبة للتنمية، كما قيل بالنسبة للشركة القومية للاسمنت مثلا، فما مبرر تنفيذ هذه السياسة على شركات قطاع الاعمال العام وحدها دون باقى الشركات والمؤسسات العامة التى تحقق خسائر باهظة ولا يجرى التفكير فى تصفيتها أو حتى اعادة هيكلتها بجدية. ويحضرنى فى هذا الصدد مثال مؤسف للغاية لبعض المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة التى تستمر فى إصدار مطبوعات وبث برامج لا يقرأها أو يتابعها أحد وتستنزف موارد عامة هائلة بلا أى عائد، وهذا مجرد مثال لقطاع اقتصادى واحد.
أما إذا كان المقصود هو العمل على بناء قطاع عام جديد مع ترك القطاع العام القديم لكى يتلاشى ويختفى تدريجيا، وهو ما أتصور أنه الوصف الأدق لما يجرى العمل عليه، فإن هذه سياسة معيبة لسببين: الاول أنه فى غياب نظم الرقابة والحوكمة والإدارة السليمة لمشروعات وشركات القطاع العام الجديد فلن يوجد ما يحميه مع مرور الوقت من الإصابة بنفس أعراض الركود والبيروقراطية التى عرقلت القطاع العام القديم وجعلته يتحول إلى عبء على الاقتصاد القومى بدلا من أن يكون سندا له. وأما السبب الثانى فهو أن توجيه كل الطاقات والموارد والاهتمام نحو بناء قطاع عام جديد لابد أن يؤدى إلى الإسراع بوتيرة انهيار القطاع العام القديم وتدهور إنتاجيته وزيادة اعبائه بما يجعل تصفيته حتمية ويلغى واقعيا احتمال اعادة هيكلته وتطويره ورفع كفاءته كى يحقق عائدا أفضل.
ويزيد من تعقيد هذا المشهد أن ما أطلقت عليه وصف القطاع العام فى مطلع المقال، تعبيرا عن كل الشركات التى تملكها الدولة أو تساهم فيها، يشمل فى الحقيقة تنوعا كبيرا بين شركات قطاع الاعمال العام، وشركات القطاع العام التقليدية، وأخرى تملكها الدولة وهيئاتها فى ظل قانون شركات القطاع الخاص، وغيرها تملكها البنوك العامة، وهذا غير المشروعات التى تملكها أو تساهم فيها هيئات القوات المسلحة. والولاية على كل هذه الشركات مقسمة بين وزارة قطاع الاعمال العام، والوزارات المختلفة القطاعية كل فيما يتبعه، ووزارة المالية التى تعتبر مالكة لها جميعا، والبنوك الخاضعة لرقابة البنك المركزى.
هذا المشهد القانونى المعقد يضاعف من أهمية أن يكون للدولة سياسة واحدة متسقة مع نفسها لتحديد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى وبالتالى مستقبل القطاع العام، خاصة أنه فى نهاية الأمر يمثل أصولا مملوكة للدولة، ومن حق الشعب ــ المالك النهائى لها ــ أن يعلم بما يجرى التدبير له ويشارك فى اتخاذ القرار.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع