بقلم : زياد بهاء الدين
يشكو زوار الصعيد، خاصة من المسئولين والإعلاميين، من كثرة شكاوى الصعايدة من الظلم والإهمال الواقع عليهم، ويعتبرون ــ الزائرون بالطبع وليس أهل الصعيد ــ أن فى الأمر مبالغة، وأن الحقيقة أن الدولة تعطى الصعيد أكثر من نصيبه العادل من الاهتمام والموارد دون أن يقابل ذلك أى تقدير أو عرفان.
الصعايدة كثيرو الشكوى بالفعل، ولكنها شكوى فى محلها. فمحافظات الصعيد هى الأكثر فقرا فى مصر وفقا للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، ويحتل صدارة الفقر من بينها أسيوط تليها سوهاج ثم قنا ثم المنيا ثم أسوان ثم بنى سويف ثم الأقصر، ومستوى الخدمات العامة بالصعيد هو الأسوأ فى مصر، ومؤشرات التنمية البشرية أقل من المتوسط العام بمسافات كبيرة.
من جهة أخرى فإن ما يُنشر فى الاعلام يؤكد أن الدولة مهتمة بالفعل بالصعيد. تأملوا أخبار الأسبوع الماضى وحده والتى تضمنت قرب صدور قانون بإنشاء هيئة جديدة لتنمية جنوب الصعيد، وتوجيه ٤٥٪ من تمويل جهاز المشروعات الصغيرة والمتوسطة (الجديد أيضا) للصعيد، والاتفاق مع البنك الدولى على رصد خمسمائة مليون دولار لتنمية محافظتى سوهاج وقنا، وقرار إنشاء كلية جديدة للتكنولوجيا فى بنى سويف. فإن كانت الدولة تضع الصعيد فى مقدمة أولوياتها وتسخر له كل هذه الامكانات والموارد، فَلِمَ تستمر الشكوى؟
فى تقديرى أن خبرة الصعايدة مع مثل هذه القرارات، والصادرة بالتأكيد بنية طيبة، علمتهم أنه لا إنشاء هيئة جديدة مختصة بتنمية الصعيد سوف يأتى بنتيجة حقيقية، ولا ضخ المزيد من الأموال لصغار المستثمرين، مادام التفكير لم يُعَدْ فى الإطار العام الحاكم للتنمية فى الصعيد.
المنطق العام للتنمية فى الصعيد الذى ساد طوال العقود الخمسة الماضية، وأخشى أن يكون مستمرا، هو ضرورة العمل على وقف الزحف الصعيدى شمالا لأنه يؤدى إلى «ترييف» نمط الحياة فى المدن، ويستنزف الخدمات والمرافق بها، ويحد من توافر العمالة الزراعية جنوبا، كما أنه خطر أمنى يلزم التحوط منه. وقد تفاقمت هذه المخاوف فى أعقاب ثورات الربيع العربى مع زيادة البطالة بسبب عودة مئات الآلاف من الشباب ليس فقط من مواقع العمل بالغردقة والقاهرة والجيزة وإنما أيضا من ليبيا وسوريا والكويت واليمن.
هذا التوجه العام أفضى إلى اعتبار أن حل مشاكل الصعيد يبدأ من توفير مظلة «كرامة» و«تكافل» للأكثر احتياجا من جهة، وتوفير التمويل منخفض الفائدة للشباب الراغبين فى بدء أعمالهم من جهة ثانية، وتشجيع الأنشطة الصناعية كثيفة العمالة على تأسيس مصانع جديدة. وفِى هذا الإطار يمكن فهم توجه الدولة نحو انشاء المزيد من المناطق الصناعية فى الصعيد، واستكمال ترفيق القائم منها، ومنح الأراضى الصناعية والاستثمارية بالمجان، وإطلاق مبادرات مختلفة لإتاحة التمويل منخفض الفائدة، وفتح فروع لمكاتب الاستثمار، بل والتفكير فى مد نطاق اتفاقية «الكويز» المبرمة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى الصعيد من أجل تشجيع الصناعات النسيجية وغيرها من الأنشطة كثيفة العمالة.
ولكن على الرغم من أن التوجه نحو زيادة الاستثمار والتشغيل فى الصعيد ــ أيا كانت دوافعه – محمود فى حد ذاته وواجب التشجيع والمساندة، فإنه غير كاف لتحقيق تنمية حقيقية ومستدامة فى أكثر محافظات مصر فقرا واحتياجا، بل الأرجح أنه لو طُبق بمفرده وبمعزل عن برنامج أكثر شمولا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فإنه لن يؤدى إلا إلى حشد شباب الصعيد لتوفير عمالة غير ماهرة ورخيصة للمصانع التى تشكو من ارتفاع تكلفة التشغيل شمالا، أو إلى مزيد من المديونية لمشروعات عاجزة عن الإنتاج الكفء والتسويق والتصدير، والنتيجة فى أحسن الأحوال هى انخفاض البطالة ولكن دون أن يصاحب ذلك تحسن فى مستويات المعيشة.
هذا البرنامج المطلوب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة لابد أن يتضمن الارتقاء بالخدمات العامة المنهارة خاصة فى مجالى التعليم والصحة (وأنا استخدم وصف «منهارة» بمنتهى الدقة من واقع المتابعة الشخصية وليس من قبيل المبالغة)، واستكمال المرافق الأساسية وعلى رأسها الصرف الصحى، والعمل على الارتفاع بمستويات التدريب والإنتاجية لشباب وشابات الصعيد كى يحصلوا على العائد المناسب من عملهم، وتوفير المناخ الداعم للنشاط الأهلى الذى يملك أن يلعب دورا تنمويا بالغ الأهمية لو خففت الدولة من التضييق غير المبرر على مؤسساته.
كل ما سبق لا يمكن تحقيقه دون أن تغير الدولة والمسئولون والإعلاميون نظرتهم نحو الصعيد ومشاكله، ويقتنعوا بأن الصعايدة ليسوا مصدر تهديد لباقى البلد، ولا هم عبء على موارد الدولة، ولا ينبغى أن يكونوا مجرد مصدر للعمالة الفتية والرخيصة، وأن حلم كل شاب من الصعيد ليس الهروب إلى القاهرة للعيش فى ظروف شاقة وغير آدمية، بل البقاء مع عائلته ورعاية أهله لو توافرت له الظروف المعيشية المعقولة وفرص العمل المجزية.
اهتمام الدولة بالصعيد ضرورى، ولكن المهم أن يتم توظيف الجهد والموارد فى موضعها الصحيح، وهذا يحتاج فهم أكثر عمقا لمشاكل الصعيد وتقدير واحترام لمطالب أهله وتطلعاتهم.
نقلاً عن الشروق القاهرية