بقلم : زياد بهاء الدين
عادة ما أتجنب الخوض فيما يكون «موضوع الساعة» حرصا على عدم تكرار ما يجرى تناوله من معلقين آخرين أكثر تخصصا ومعرفة أو تجنبا لما يشغل الفضاء الالكترونى من خلافات حامية كثيرا ما تكون مجرد «فرقعة» ما تلبث أن تختفى بعد أيام قليلة إن لم يكن ساعات. ولذلك لم يخطر على بالى أن أتناول بالتعليق رداء إحدى المشاركات فى مهرجان القاهرة السينمائى. ولكن مع وصول الرداء وصاحبته إلى قبة البرلمان ثم لساحات المحاكم، فإنهما تحولا بالضرورة إلى قضية عامة تتعلق بطبيعة النظام القانونى الذى نعيش فى ظله، وبالذات بالعلاقة بين القانون والأخلاق.
من سمات المجتمعات الحديثة أن يكون لكل من القانون والأخلاق فيها مجال مختلف عن الآخر، بحيث يتمتع بمساحته وحدوده وأدواته وكذلك بالعقوبات التى يواجه بها من لا يحترمه. ولأنهما مختلفان فإن الفوارق بينهما كثيرة ومهمة.
القانون يجب أن يكون صادرا من السلطة التشريعية ومكتوبا ومنشورا بشكل رسمى، بينما القاعدة الاخلاقية تكون معروفة ومتداولة بين الناس دون أن تكون مكتوبة أو محفوظة فى سجل معين. ولهذا ينص الدستور على أنه لا جريمة ولا عقوبة الا بنص للتأكيد على أن القانون يجب أن يكون ثابتا فلا يثور بشأن وجوده أى غموض أو التباس. ومع ذلك فإن هذا لا يعنى أن القاعدة الأخلاقية تكون بالضرورة غامضة أو مجهولة، بالعكس فالغالب أن يكون الناس على دراية بما هو مقبول أو غير مقبول اخلاقيا ــ أى العيب ــ أكثر من علمهم بالقوانين خاصة ما لا يتصل بحياتهم اليومية.
والجريمة فى القانون، بالاضافة للكتابة والنشر، يجب أن تكون محددة تحديدا بالغ الدقة لأن ارتكابها يترتب عليه عقوبات جنائية، بينما العيب لا يكون محددا بهذه القطعية بل يخضع لتقديرات متنوعة، قد تختلف من بلد إلى بلد، كما تختلف داخل نفس البلد، وأحيانا من حى فى المدينة إلى حى آخر. فالقانون جوهره الدقة والقطعية بينما الأخلاق طبيعتها التقدير والتنوع.
والعقوبة فى القانون بدورها محددة ولا يجوز التوسع فيها، مثل الغرامة والحبس والسجن والإعدام، بينما مخالفة القاعدة الأخلاقية لها عقوبات أو بالأحرى عواقب من نوعية مختلفة تماما وشديدة التنوع، منها التجاهل والمقاطعة والاحتقار وسوء المعاملة وهكذا. وهذا بدوره لا يعنى أن العقوبة الجنائية بالضرورة أشد من الرادع الاخلاقى، بل قد يكون العكس هو الصحيح. غالبية الناس قد لا تكترث بدفع غرامة ــ خاصة لو كانت قليلة القيمة ــ ولكن يؤلمها أكثر أن تكون محل احتقار أو تجاهل من جيرانها وأصدقائها وزملائها فى العمل. وقد يصل الرادع الاخلاقى لحدود قصوى فيجد المخالف نفسه مضطرا لترك حياته السابقة والبدء فى سكن أو محل إقامة جديد لأن الحياة فى ظل العيب الذى ارتكبه صارت مستحيلة.
ومع ذلك فان القانون والاخلاق ليسا منفصلين تماما لأن الأخلاق يمكن أن تكون أساس القانون، فيصدر عندئذ تشريع يجرم سلوكا اخلاقيا معينا ويحدد له عقوبة، على نحو ما هو الحال فى جرائم السب والقذف وغيرها. وهنا نكون حيال قيمة أخلاقية تحولت إلى نص قانونى وبالتالى إلى جريمة فانتقلت بذلك من مجال الأخلاق إلى مجال القانون. ولكن المهم ألا يكون هناك تداخل بينهما فلا يجرى تطبيق عقوبة قانونية على مخالفة قاعدة أخلاقية لم تتحول لنص تشريعى آمر.
ما سبق ليس منبت الصِلة بمفهوم الدولة المدنية التى تحكمها القوانين الصادرة من البرلمان فقط، وبالتالى لا تكون المحاكم فيها معنية بتطبيق أى معايير أو ضوابط أخرى بخلاف تلك النصوص المحددة والمعروفة سلفا. أما الاعتقاد بأن على النيابات والمحاكم فرض قواعد اخلاقية ليست مؤثمة قانونا فهو خروج عن هذا الضابط الأساسى وبالتالى قبول لقيام القضاء بتطبيق مرجعيات اخلاقية وحكمية لا أساس لها فى القانون ولا الدستور وفتح باب التفسير والاجتهاد أمامها فيما يجوز أو لا يجوز أخلاقيا.
مخالفة القاعدة الاخلاقية ليست أمرا بسيطا وعواقبها قد تكون وخيمة على المخالف لأنه قد يعرض نفسه للاحتقار والمهانة وهى تدابير لا تقل شأنا عن العقوبة الجنائية بل أحيانا تزيد. ولكن المهم أن يظل لكل من الأخلاق والقانون مساحته ومجاله وعواقبه دون تداخل بينهما وإلا ضاع أساس الدولة المدنية الحديثة. هذا هو ما ينبغى أن يشغلنا ويكون محلا للنقاش بيننا وليس الرداء ولا صاحبته.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع