خلال الشهور الماضية تحولت قضية الحفاظ على التراث الحضارى والمعمارى للمدن المصرية من موضوع يشغل المتخصصين والأهالى المتحمسين إلى قضية رأى عام يتابعها ويتفاعل معها جمهور أوسع.
سوء تعامل الحكومة مع هذا الموضوع وتجاهل الاحتجاج المتصاعد من هدم المبانى التاريخية وإزالة الأشجار والحدائق والعوامات والمعالم الأخرى جعل الموضوع يكتسب زخما واهتماما من الرأى العام خاصة بعدما طال أضرحة ومقابر لها فى وجدان الناس مكانة دينية وروحية لا تقل قطعا عن القيمة الحضارية والمعمارية.
وهكذا تابع الناس - مثلا - أخبار استقالة أحد أعضاء اللجنة الرسمية المشكلة لدراسة هذا الملف ثم عدوله عنها، كما يتابعون الأحداث السياسية الساخنة والأخبار الفنية والرياضية. كذلك صارت الصور المتداولة والتقارير والدراسات عن المواقع التراثية المهددة بالإزالة - ما كان منها صحيحا وما كان إشاعة - محل اهتمام واستياء يومى.
هذا تحول هام، وعلى الحكومة أن تعى حجمه ودلالته كى تتصرف معه بجدية أكبر وبحكمة بدلا من تجاهله أو التعامل معه باستخفاف أو بمجرد المضى فى تنفيذ عمليات الإزالة دون اكتراث وبمنطق تثبيت الأوضاع حتى لا تكون هناك فرصة لإعادة النظر.
اتساع الاهتمام بحماية التراث المعمارى وراءه أسباب ودوافع أكبر من الإبقاء على مبان وحدائق قديمة لأنه صار رمزا لقلق أكثر عمقا فى المجتمع:
على رأس هذه الأسباب غياب الشفافية فى المعلومات. فلا الناس تعلم ما الذى سيجرى إزالته، ولا السبب وراءه، ولا ما يجرى التخطيط لبنائه، ولا الجدوى منه، ولا البدائل الممكن النظر فيها للحفاظ على المعالم التراثية التى تقف فى طريقه أو تحتم الإزالة.
ويرتبط بذلك عدم وضوح ما إذا كانت هذه الإزالات تمهد لتنفيذ مرافق وخدمات عامة، أم أنها لإفساح المساحات المطلوبة لمشروعات تجارية كالمقاهى والمطاعم وإتاحة الأراضى للأنشطة العقارية الخاصة، مما لا ينطبق عليه حتى وصف المصلحة العامة.
من جهة أخرى فقد عبرت حملات الحفاظ على التراث التاريخى والحضارى عن إشكالية أخرى فى المجتمع، وهى غياب القنوات المشروعة التى يمكن للناس أن يعبروا من خلالها عن اعتراضهم على السياسات المؤثرة على حياتهم بما فى ذلك ملامح المدن المصرية. قليل من النواب البرلمانيين وقفوا مع مطالب سكان دوائرهم وبعضهم حقق نتائج إيجابية، ولهم كل الشكر والتقدير.
ولكن فى غالب الأحوال فلا الشكوى للحى، ولا الحكومة، ولا للنواب البرلمانيين، ولكن فى غالب الأحوال فلا الشكوى للحى، ولا الحكومة، ولا للنواب البرلمانيين، ولا الإعلام جاءت بنتيجة. فقط حينما اشتعلت صفحات التواصل الاجتماعى وصدرت بيانات احتجاجية وجرى جمع توقيعات عليها بدا أن أصوات الناس وصلت لسمع الحكومة.. ومازلنا فى انتظار ما يسفر عنه كل هذا الجهد.
وأخيرا فإن الحملات الشعبية الساعية للحفاظ على تراث المدن المصرية تعبر عن قلق فى المجتمع المصرى من النموذج التنموى الذى نتبعه. والسؤال الذى يتردد على كل لسان هو لمَ نستهتر على هذا النحو بمعالم تراثية معمارية وحضارية تكونت على مدى آلاف السنين وصارت عنوانا ورمزا لمصر وعراقتها.
وفى المقابل نجتهد لبناء مدن وتجمعات ومظاهر حداثة اقتباسا واقتداء بنموذج تنموى قد يكون ناجحا فى بلدان أخرى ولكنه لا يناسب وضعنا ولا مواردنا ولا تاريخنا ولا حجم التراث المعمارى والحضارى الموجود بالفعل دون حاجة لاستيراده من الخارج.
أرجو أن تدرك الحكومة أن الاستياء الشعبى من الاعتداء على التراث الحضرى المصرى ظاهرة لا يجوز الاستهانة بها أو تجاهلها، بل تستحق الاهتمام والتفاعل والشفافية والإنصات لما يريده الناس وما يقترحه الخبراء لأنها صارت - ببساطة - قضية سياسية،
مع كل الاحترام والتقدير لمن يسعون للدفاع عن هوية مصر الثقافية والحضارية والتاريخية فى كل المواقع وفى ظل ظروف صعبة وبأدوات محدودة.