توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن الغارمات... والعدالة الضائعة

  مصر اليوم -

عن الغارمات والعدالة الضائعة

بقلم : زياد بهاء الدين

يتصاعد من وقت لآخر الحماس الرسمى والاهتمام فى المجتمع عموما بموضوع «الغارمات»، وهن السيدات اللواتى يعجزن عن سداد ديون قليلة القيمة فينتهى بهن الحال فى السجون بكل ما يترتب على ذلك من بؤس ومهانة وتفكك أسرى. وبرغم أننى لا أعلم رقما محددا لحجم هذه الظاهرة المخيفة الا أنها بالقطع تضم عشرات الآلاف من النساء بدليل أن مبادرة واحدة قامت بها واحدة من كبرى الجمعيات الأهلية خلال شهر رمضان الماضى استهدفت سداد مديونيات خمسة آلاف غارمة دفعة واحدة، ومثلها جهود وأموال كبيرة ينفقها أفراد وهيئات عامة ومؤسسات وبنوك وجمعيات أهلية للتخفيف من حدة هذه الأزمة الإنسانية والاجتماعية الخطيرة.

ولكن بقدر ما يسعدنى أن يحظى هذا الموضوع باهتمام الدولة والمجتمع إلا أن الواقع أن هذه الجهود المخلصة، مهما أسفرت عن إطلاق سراح أعداد كبيرة من الغارمات كل عام، لن تمنع تكرار ذات الوضع مرة أخرى لأنها لا تتوجه إلى أصل المشكلة وأسبابها بل تسعى لمعالجة نتائجها. 
فما أصل المشكلة ولماذا لا نتعامل فى الوقت الحالى إلا مع نتائجها؟

منذ عصر النهضة الأوروبى ــ أى ما يزيد على خمسة قرون ــ استقر فى الفقه القانونى والتشريع أن الحبس والعقوبات السالبة للحرية عموما لا تكون إلا بسبب ارتكاب جرائم وليس بسبب العجز عن سداد الديون. وهذه تفرقة تبدو الآن بديهية ولكنها لم تكن كذلك على مدى التاريخ، بل كان العديد من النظم القانونية السابقة على ذلك ــ وعلى رأسها القانون الرومانى ــ يعتبر التعثر موجبا للحبس وفقدان الحرية. وقد أخذ النظام القانونى المصرى المعاصر بذات المبدأ حيث لا يجوز اعتبار مجرد التعثر عن السداد جريمة تؤدى إلى الحبس، بل يلزم على الدائن الذى يحل أجل الدين المستحق له أن يتخذ إجراءات المطالبة المدنية والتى تنتهى بالتنفيذ على أموال المدين المتعثر دون المساس بحريته.

هذا من حيث المبدأ. ولكن الواقع فى مصر أن التنفيذ المدنى على أموال المدين المتعثر لا يحقق نتيجة ولا يمكن الدائن من الحصول على أمواله إلا بعد سنوات طويلة ومصاريف باهظة وإجراءات شديدة البطء والتعقيد وعقبات فى التنفيذ وفى اثبات الملكية وفى إخفاء الأموال، بما يجعل الاعتماد على الطريق المدنى لاقتضاء الديون محفوفا بالعقبات وغير مشجع على الإقراض. ونتيجة لذلك نشأ فى مصر عرف تجارى أو «حيلة» مستقرة فى السوق، وهى أن يطلب الدائن من المقترض القيام بتوقيع شيكات أو ايصالات أمانة أو غيرها من الأوراق التى تجعل الدين العادى يتحول إلى مشروع جريمة إصدار شيك بدون رصيد أو خيانة أمانة أو نصب وبالتالى تصبح عاقبة التعثر هى الحبس بسبب ارتكاب واحدة من هذه الجرائم.

هذا العرف المخالف لروح القانون والدستور المصرى ولأحد أهم حقوق الإنسان الاقتصادية ــ عدم تطبيق العقوبة السالبة للحرية على التعثر المالى ــ مستمر فى مصر لأن كثيرا من أصحاب الدخول المحدودة لا يجدون أمامهم مفرا من اللجوء للاقتراض حتى مع مخاطرة الدخول للسجن فى ظل المصاريف الكثيرة والأسعار المرتفعة ومتطلبات الحياة اليومية التى لا ترحم. ولهذا فإن كثيرا من النساء يجدن أنفسهن فى هذا الموقف حينما تدفعهن الحاجة للسلف من أجل استكمال مصاريف دروس خصوصية أو شراء سلع معمرة يحتاجها المنزل أو ضمان أعمال يقوم بها أزواجهن أو أولادهن. 
أما من جهة المقرضين، بما فى ذلك المؤسسات الرسمية المحترمة والمصارف والجمعيات الأهلية فالموضوع ليس بسيطا. هذه المؤسسات لا يهمها بالتأكيد أن ينتهى كل قرض تمنحه بمعركة ونزاع قضائى وشكوى للنيابة ومحاكمة جنائية، كما يضر بسمعتها ومكانتها فى السوق أن تتحول إلى سبب لحبس الغارمات وتشريد أطفالهن. ولكن المشكلة من وجهة نظرهم ــ أى مؤسسات الإقراض ــ أن المسار القضائى العادى لاسترداد الديون بالطريق المدنى ودون التهديد بالعقوبة الجنائية لا يأتى بنتائج مفيدة وبالتالى يشجع التعثر. ولكن استمرار الوضع الراهن يعنى أن يستمر أصحاب الدخول المحدودة فى الاقتراض وفقا لهذه الشروط المجحفة، وتستمر مؤسسات التمويل غير قادرة على حماية أموالها وأموال المودعين لديها بدون الردع الجنائى المخالف لروح الدستور ولحقوق الإنسان، وتستمر الغارمات فى التعثر، ويستمر أصحاب الضمائر فى سداد مديونياتهن، وتستمر المحاكم والنيابات متخمة بالدعاوى الجنائية قليلة الأهمية، وتستمر هذه الحال البائسة.

ما الحل إذن؟ الحل بسيط نظريا ولكنه ليس بسيطا فى التطبيق. الحل هو تعديل نظام التقاضى المدنى بما يجعل البنك والشركة والجمعية المستحق لهم أموال لدى المقترض قادرين على استيداء حقوقهم بسرعة وبكفاءة وبمصاريف معقولة، وهذا وحده كفيل بالقضاء على ظاهرة تهديد المقترضين بالحبس. حل بسيط نظريا ولكن عمليا لا يعنى مجرد تغيير بضع مواد فى القانون، بل تغيير جذرى فى القانون واللوائح وفى نظام عمل المحاكم وفى قواعد الإثبات وفى آليات التنفيذ وغيرها من متطلبات إحداث هذه الثورة الحقيقية فى التقاضى.

الموضوع كبير وصعب ولكنه يستحق. ولهذا فإننى أختم هذا المقال بدعوة كل الأطراف المهتمة والمعنية بالموضوع، وزارة العدل والبنك المركزى ووزارة التضامن الاجتماعى ونوادى القضاة ومنظمات المجتمع المدنى والبرلمان والحكومة، لاعتبار هذه القضية على رأس أولويات الإصلاح التشريعى المطلوب، وبدلا من توجيه الجهد والموارد والوقت لحل مشاكل بعض الغارمين والغارمات كل عام (لأنها قضية تمس الرجال والنساء معا)، العمل على توجيهها لحل المشكلة من جذرها وإنهاء وضع اجتماعى وإنسانى مشين لا يليق بمصر ولا بتراثنا القانونى. فهل من مستجيب؟

نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الغارمات والعدالة الضائعة عن الغارمات والعدالة الضائعة



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon