بقلم : زياد بهاء الدين
يتصاعد من وقت لآخر الحماس الرسمى والاهتمام فى المجتمع عموما بموضوع «الغارمات»، وهن السيدات اللواتى يعجزن عن سداد ديون قليلة القيمة فينتهى بهن الحال فى السجون بكل ما يترتب على ذلك من بؤس ومهانة وتفكك أسرى. وبرغم أننى لا أعلم رقما محددا لحجم هذه الظاهرة المخيفة الا أنها بالقطع تضم عشرات الآلاف من النساء بدليل أن مبادرة واحدة قامت بها واحدة من كبرى الجمعيات الأهلية خلال شهر رمضان الماضى استهدفت سداد مديونيات خمسة آلاف غارمة دفعة واحدة، ومثلها جهود وأموال كبيرة ينفقها أفراد وهيئات عامة ومؤسسات وبنوك وجمعيات أهلية للتخفيف من حدة هذه الأزمة الإنسانية والاجتماعية الخطيرة.
ولكن بقدر ما يسعدنى أن يحظى هذا الموضوع باهتمام الدولة والمجتمع إلا أن الواقع أن هذه الجهود المخلصة، مهما أسفرت عن إطلاق سراح أعداد كبيرة من الغارمات كل عام، لن تمنع تكرار ذات الوضع مرة أخرى لأنها لا تتوجه إلى أصل المشكلة وأسبابها بل تسعى لمعالجة نتائجها.
فما أصل المشكلة ولماذا لا نتعامل فى الوقت الحالى إلا مع نتائجها؟
منذ عصر النهضة الأوروبى ــ أى ما يزيد على خمسة قرون ــ استقر فى الفقه القانونى والتشريع أن الحبس والعقوبات السالبة للحرية عموما لا تكون إلا بسبب ارتكاب جرائم وليس بسبب العجز عن سداد الديون. وهذه تفرقة تبدو الآن بديهية ولكنها لم تكن كذلك على مدى التاريخ، بل كان العديد من النظم القانونية السابقة على ذلك ــ وعلى رأسها القانون الرومانى ــ يعتبر التعثر موجبا للحبس وفقدان الحرية. وقد أخذ النظام القانونى المصرى المعاصر بذات المبدأ حيث لا يجوز اعتبار مجرد التعثر عن السداد جريمة تؤدى إلى الحبس، بل يلزم على الدائن الذى يحل أجل الدين المستحق له أن يتخذ إجراءات المطالبة المدنية والتى تنتهى بالتنفيذ على أموال المدين المتعثر دون المساس بحريته.
هذا من حيث المبدأ. ولكن الواقع فى مصر أن التنفيذ المدنى على أموال المدين المتعثر لا يحقق نتيجة ولا يمكن الدائن من الحصول على أمواله إلا بعد سنوات طويلة ومصاريف باهظة وإجراءات شديدة البطء والتعقيد وعقبات فى التنفيذ وفى اثبات الملكية وفى إخفاء الأموال، بما يجعل الاعتماد على الطريق المدنى لاقتضاء الديون محفوفا بالعقبات وغير مشجع على الإقراض. ونتيجة لذلك نشأ فى مصر عرف تجارى أو «حيلة» مستقرة فى السوق، وهى أن يطلب الدائن من المقترض القيام بتوقيع شيكات أو ايصالات أمانة أو غيرها من الأوراق التى تجعل الدين العادى يتحول إلى مشروع جريمة إصدار شيك بدون رصيد أو خيانة أمانة أو نصب وبالتالى تصبح عاقبة التعثر هى الحبس بسبب ارتكاب واحدة من هذه الجرائم.
هذا العرف المخالف لروح القانون والدستور المصرى ولأحد أهم حقوق الإنسان الاقتصادية ــ عدم تطبيق العقوبة السالبة للحرية على التعثر المالى ــ مستمر فى مصر لأن كثيرا من أصحاب الدخول المحدودة لا يجدون أمامهم مفرا من اللجوء للاقتراض حتى مع مخاطرة الدخول للسجن فى ظل المصاريف الكثيرة والأسعار المرتفعة ومتطلبات الحياة اليومية التى لا ترحم. ولهذا فإن كثيرا من النساء يجدن أنفسهن فى هذا الموقف حينما تدفعهن الحاجة للسلف من أجل استكمال مصاريف دروس خصوصية أو شراء سلع معمرة يحتاجها المنزل أو ضمان أعمال يقوم بها أزواجهن أو أولادهن.
أما من جهة المقرضين، بما فى ذلك المؤسسات الرسمية المحترمة والمصارف والجمعيات الأهلية فالموضوع ليس بسيطا. هذه المؤسسات لا يهمها بالتأكيد أن ينتهى كل قرض تمنحه بمعركة ونزاع قضائى وشكوى للنيابة ومحاكمة جنائية، كما يضر بسمعتها ومكانتها فى السوق أن تتحول إلى سبب لحبس الغارمات وتشريد أطفالهن. ولكن المشكلة من وجهة نظرهم ــ أى مؤسسات الإقراض ــ أن المسار القضائى العادى لاسترداد الديون بالطريق المدنى ودون التهديد بالعقوبة الجنائية لا يأتى بنتائج مفيدة وبالتالى يشجع التعثر. ولكن استمرار الوضع الراهن يعنى أن يستمر أصحاب الدخول المحدودة فى الاقتراض وفقا لهذه الشروط المجحفة، وتستمر مؤسسات التمويل غير قادرة على حماية أموالها وأموال المودعين لديها بدون الردع الجنائى المخالف لروح الدستور ولحقوق الإنسان، وتستمر الغارمات فى التعثر، ويستمر أصحاب الضمائر فى سداد مديونياتهن، وتستمر المحاكم والنيابات متخمة بالدعاوى الجنائية قليلة الأهمية، وتستمر هذه الحال البائسة.
ما الحل إذن؟ الحل بسيط نظريا ولكنه ليس بسيطا فى التطبيق. الحل هو تعديل نظام التقاضى المدنى بما يجعل البنك والشركة والجمعية المستحق لهم أموال لدى المقترض قادرين على استيداء حقوقهم بسرعة وبكفاءة وبمصاريف معقولة، وهذا وحده كفيل بالقضاء على ظاهرة تهديد المقترضين بالحبس. حل بسيط نظريا ولكن عمليا لا يعنى مجرد تغيير بضع مواد فى القانون، بل تغيير جذرى فى القانون واللوائح وفى نظام عمل المحاكم وفى قواعد الإثبات وفى آليات التنفيذ وغيرها من متطلبات إحداث هذه الثورة الحقيقية فى التقاضى.
الموضوع كبير وصعب ولكنه يستحق. ولهذا فإننى أختم هذا المقال بدعوة كل الأطراف المهتمة والمعنية بالموضوع، وزارة العدل والبنك المركزى ووزارة التضامن الاجتماعى ونوادى القضاة ومنظمات المجتمع المدنى والبرلمان والحكومة، لاعتبار هذه القضية على رأس أولويات الإصلاح التشريعى المطلوب، وبدلا من توجيه الجهد والموارد والوقت لحل مشاكل بعض الغارمين والغارمات كل عام (لأنها قضية تمس الرجال والنساء معا)، العمل على توجيهها لحل المشكلة من جذرها وإنهاء وضع اجتماعى وإنسانى مشين لا يليق بمصر ولا بتراثنا القانونى. فهل من مستجيب؟
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع