بقلم : زياد بهاء الدين
اعترض بعض الأصدقاء والزملاء على مقالى المنشور الأسبوع الماضى بعنوان «العدالة قبل الديمقراطية»، انطلاقا من أن العدالة لن تتحقق فى غياب الديمقراطية، وأن قبول إرجاء الإصلاح السياسى يفتح بابا واسعا للسكوت على استمرار تقييد الحريات وغلق المجال العام. وقد أسعدنى للغاية هذا الحماس ووضوح الرؤية من قراء لم يتأثروا بالمناخ العام المعادى للحريات والديمقراطية فى مصر والعالم، ولا بالخطاب السائد إعلاميا والذى يسعى لترسيخ مفهوم التعارض بين الحرية والشراكة فى الحكم وبين الاستقرار والتنمية الاقتصادية كما لو كان من المسلمات.
والواقع أن ما دعوت اليه الأسبوع الماضى لم يكن إهمال الديمقراطية ولا إرجاء المطالبة بها إلى أن تتحقق العدالة فى المجتمع، بل كانت خاتمة المقال السابق «دعونا إذن لا نهمل الديمقراطية ولا ننسى الحقوق التى كفلها الدستور، ولكن الاولوية فى الوقت الراهن يجب أن تكون لاعلاء راية العدل واحترام القانون». وتقديرى أن هذا الترتيب مطلوب فى الوقت الحالى لأكثر من سبب.
من جهة أولى فإن تحديد أولويات العمل العام يجب أن يتعلق ليس فقط بما هو أصلح نظريا أو أهم من حيث المبدأ، ولكن أيضا بِما يمثل أولوية حقيقية وملحة لدى الجمهور الواسع غير المهتم بالضرورة بالشأن السياسى والمنشغل بالسعى وراء تلبية حاجاته الأساسية فى ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. ولكن حتى فى هذا السياق الذى تتصدر فيه الحالة الاقتصادية مشاغل الناس، فإن قضية العدالة تبرز وتتقدم على غيرها من القضايا العامة لأنها تمس كل منزل وكل فرد وكل أسرة مهما كانت ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية أو انتماءاتهم الثقافية والفكرية. لا يوجد من لا يعانى بشكل أو بآخر من تراجع قيمة العدالة فى المجتمع سواء فى مجال الحريات العامة والسياسية، أم فى اقتضاء حقوقه التجارية والاقتصادية، أم فى الحصول على نصيبه من الخدمات العامة، أم فى حماية ممتلكاته الخاصة، أم فى مجرد التنازع المعتاد بين الأفراد فى المجتمع. قضية العدالة مظلة جامعة وقادرة على اعادة الحراك والاهتمام بالشأن العام من مدخل لا خلاف عليه.
ومن جهة ثانية لتقديم قضية العدالة أن وعى المواطنين بحقوقهم بشكل عام، وبأهمية أن تكون القوانين عادلة ومنطقية، والقضاء مستقل، والحكومة وأجهزة الدولة التنفيذية خاضعة كلها لحكم القانون، هو المدخل الأهم والأكثر فاعلية لبناء الوعى السياسى والارتباط بقيم المواطنة والمساواة والحقوق، وهى الأسس التى تنبنى عليها الدولة الديمقراطية التى تحترم الدستور والحريات العامة. العدالة إذن ليست مطلبا فى حد ذاته فقط بل الأساس الذى ينبنى عليه الوعى بالمجتمع وبالشأن العام وبحقوق المواطنين فى كل المجالات.
وأخيرا فإن القضيتين ــ العدالة والديمقراطية ــ ليستا فى الواقع منفصلتين. ولذلك فإن المطالبة بتحقيق العدالة بما يتضمنه ذلك من تنقية القوانين من النصوص التى تخالف الدستور أو تحرم المواطنين من حقوقهم الاساسية فى التعبير والتنظيم والاحتجاج أو تحد من استقلال القضاء أو تسمح بتدخل السلطة التنفيذية فى سير العدالة، هى فى الواقع مطالبة بتحقيق جوهر الديمقراطية والحوكمة بغض النظر عن العنوان الذى يتصدرها.
العدالة هى القضية الأساسية والأهم التى ينبغى الالتفاف حولها فى الوقت الراهن والدعوة اليها والتبصير بأهميتها، ليس باعتبارها بديلا عن باقى القيم الانسانية والسياسية التى ينبغى لوطننا أن يعيش فى ظلها، ولكن لانها المدخل الأفضل لبلوغ هذه القيم ولبناء توافق شعبى نفتقده فى جميع جوانب العمل العام.
علمت بعد كتابة هذا المقال بوفاة المرحوم المناضل الكبير الاستاذ خالد محيى الدين، الذى قضى عمره مدافعا عن حرية الوطن والمواطنين وعن الديمقراطية والعدالة والمساواة للشعب المصرى، فله كل الدعاء بالرحمة ولأسرته وأصدقائه ورفاق دربه خالص العزاء.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع