بقلم - زاهي حواس
كان المعتقد قديمًا أن الملك خوفو حكم من داخل قصره فى منف، ولكن تأكد لنا من خلال الأدلة العلمية الحديثة أن منف كانت فقط العاصمة السياسية والتجارية والدينية، والتى يقوم فيها المواطن المصرى بعملية التبادل التجارى، ولكن الملك كان يعيش داخل قصره بجوار الهرم، ولدينا نص داخل مقبرة بالهرم تعود إلى الأسرة الخامسة، وفيها ما يشير إلى أن الملك جد- كارع إسيسى كان يعيش فى قصره بجوار الهرم. كذلك جاء الدليل القوى من خلال بردية وادى الجرف، والتى أشارت إلى أن الملك خوفو كان يعيش فى قصره بالهرم. وكانت المنطقة التى يعيش فيها تعرف باسم عنخ خوفو، أى «خوفو يعيش».
ولذلك كان الملك يحكم مصر من الهرم لأن الهرم كان المشروع القومى للبلاد. وكان الملك يشرف على بناء الهرم من خلال تقارير يومية تأتى إليه من رئيس كل أعمال الملك، وبلا شك أن قصر الملك كان يجاوره مخابز ومخازن الغلال ومحلات الجزارة وورش نجارة وورش لإنتاج الفخار والنسيج ومصانع لإنتاج البيرة. ولدينا دليل آخر موجود داخل مقبرة، وهو نى عنخ-نوت من الأسرة الخامسة، حيث كتب على مقبرته أنه كان مراقبًا للممتلكات وكاتبًا أو مديرًا للقوى البشرية، ومسؤولًا عن الفلاحين، ومديرًا لقاعة الطعام، ومراقبًا للكتان، وحاملًا للأختام. أما مقبرة الجيزة للمدعو سن نجم ايب، والتى ذكرناها من قبل، وهو الذى شيد وخطط لهرم جد كارع إسيسى، وقام أيضًا بتشييد قصر جديد عليه زهور اللوتس، وتصل مساحته إلى ١٢٢٠ فى ٤٤٠ ذراعًا، أى ما يعادل ٢٣١ فى ٦٤٠ مترًا.
ونستطيع القول إن المدن الهرمية التى كانت تجاور القصر أصبحت مستوطنات كبيرة تقدم الخدمات الخاصة بالهرم والملك فى نفس الوقت، وبلا شك أن هذه المستوطنات كان يعيش فيها العمال والموظفون والكهنة. وكان لكل فئة وظيفة فى عملية بناء الهرم. ولنا أن نتصور كمية إنتاج الطعام والمخازن والوقود التى كانت تقدم للمعيشة وخدمة كل فئة من الفئات. وهذا النوع من الخدمات استمر مع كل ملك بالجيزة، سواء خوفو وابنه خفرع ومنكاورع.
نأتى بعد ذلك إلى نقطة هامة جدًا، وهى كيفية عملية تنظيم العمل؟، وسوف نجد الإجابة على هذا السؤال تأتى من خلال النقوش الهيروغليفية التى تحدثنا بها مقابر العمال بناة الأهرام، والتى تم الكشف عنها عن طريق كاتب هذه السطور، وتعتبر من أهم الاكتشافات التى تثبت أولًا أن العمال بناة الأهرام كانوا مصريين وأنهم لم يكونوا عبيدًا، لأنهم لو كانوا عبيدًا لما دفنوا بجوار الهرم، ولما أعدوا مقابرهم للعالم الآخر مثل الموظفين والملوك، وأثبت هذا الكشف أيضًا أن الهرم كان المشروع القومى لكل المصريين، ولذلك نقول إن بناء الهرم هو الذى بنى مصر. وكان هؤلاء العمال يأتون من القرى، سواء من الوجه القبلى أو البحرى، وكان أغلبهم من الفلاحين الذين أتوا ليشاركوا فى بناء الأهرامات، وذلك يشير إلى تضامن العائلات الكبيرة فى الدلتا والصعيد لإتمام هذا العمل، وبالتالى كان الملك يصدر مراسم لإعفاء هذه العائلات من الضرائب لأنهم يقومون بدفع أجور العمال عن طريق الغلال والحبوب والبيرة لعائلات العمال الذين يشاركون فى نقل الأحجار. وكان هؤلاء العمال- كما ذكرنا- يأتون من القرى والمقاطعات المصرية ويتبادلون العمل ويتم تنظيمهم داخل مجموعات، وكانت أسماء هذه الفرق والمجموعات مركبة، حيث أضيف إلى أسمائهم اسم الملك الذى يعملون فى بناء هرمه. وسوف نجد أن الحجرات الخمس التى تعلو حجرة الدفن الثالثة داخل هرم خوفو يوجد بها أسماء فرق العمال، مثل «أصدقاء الملك خوفو»، وكذلك نقش داخل الحجرات «العام العاشر من حكم الملك خوفو».
وعثر العالم الأمريكى جورج رايزنر، وهو يعمل بجوار هرم الملك منكاورع، على إحدى الكتل الضخمة على اسم إحدى فرق العمال، وهى «أصدقاء منكاورع»، وكذلك عبارة تقول «سكارى منكاورع». ونعرف أيضا من خلال النقوش أن العمال كانت تنقسم إلى جماعات تضم كل منها خمسة أفراد يطلق عليهم اسم «زاو» كتبت بعلامة تمثل بقرة مقيدة بحبل مشدود إلى عدة حلقات تمسك بالأرجل، وإذا نظرنا إلى المرسوم الذى أصدره بطليموس الثالث فى عام ٢٣٧ ق.م، فقد استخدم كلمة فرقة لتوازى زاو الكلمة المصرية القديمة. وهذه الكلمة تعنى قبيلة باليونانية، ورغم أن هذه الترجمة لا تتناسب مع العمال بناة الأهرام، فإنها قد تعنى الفرقة لإحدى فرق العمال الذين جاءوا من خلال العائلات الكبيرة. ومن خلال النقوش نعرف أن العمال بناة الأهرام كانوا ينقسمون إلى خمس فرق تسمى «العظيم- الآسيوى- الأخضر- الصغير- الطيبة». وكان كل منها يتكون من عدد كبير من الأشخاص، وكان يطلق عليهم اسم من مقطع واحد وهو «الحياة والتجمل والكمال»، ونعلم أن هذا النظام قد تم اتباعه داخل المعابد فى الأسرة الخامسة أيضا، حيث كان يتم تناوب الخدمة بين الفرق المختلفة، وكان العمل فى بناء الهرم يحتاج إلى مجهود ضخم جدًا، واهتم الكتبة بتسجيل أسماء الشباب القادمين من النجوع والقرى.
وقد ورد أيضا أن هناك مصطلحا مهما جدا مرتبطا بالعمال وبناء الهرم، وهو «را- شى» ومعناه الحرفى هو مدخل البحيرة، وهناك العديد من المناقشات التى تحدد موقع «را- شى»، لأن هذا الاسم ذكر فى بردية وادى الجرف التى تعود إلى عصر خوفو وبردية أبو صير التى تعود لعصر الأسرة الخامسة، وقد نعرف من خلال بردية أبو صير أن هذا الاسم له وظيفة اقتصادية من تسليم المواد والمنتجات وخلافه. وتشير كل النصوص إلى أن «را-شى» تقع ما بين الأرض الزراعية ومنطقة الهرم: أو بمعنى آخر منطقة تقع ما بين العالم الحالى للأحياء وبين عالم الخلود للمتوفى، ومن المهم هنا أن نشير إلى أن بردية وادى الجرف قد حددت خرافة مكان «را- شى»، حيث ذكرت أن هذا المصطلح يدل على مدخل المنطقة إدارية كان يشرف عليها شخص يعرف باسم عنخ- خاف، وهو الذى تولى بناء الهرم الثانى. واحتمال كبير أنه استكمل بناء هرم خوفو بعد وفاة المهندس حم- أيونو، وقد ذكر رئيس العمال «مرر» فى بردية وادى الجرف أنه استغرق يومًا كاملًا للمرور من «را- شى» إلى الهرم. وأعتقد أن السبب فى أنه استغرق هذه المدة هو أن هناك أمام مرر وعماله مئات العمال الذين كانوا يوقعون فى دفاتر الحضور والانصراف بالحرف الأول من الاسم، بالإضافة إلى تسجيل كل ما كان يدخل منطقة الهرم من أحجار ومأكولات، وهذا هو سبب طول المدة التى استغرقت دخوله يومًا كاملًا.
ومن خلال الحفائر التى تمت بمنطقة الهرم وكشف فيها عن طريق مارك لينر منطقة إدارة العمال، والتى تقع إلى الشرق مباشرة من مقابر العمال التى كشفناها، فقد عثر على العديد من كسر الفخار أغلبه يعود إلى عصر الأسرة الرابعة. وهناك أختام من الفخار، وكذلك العديد من كسر الفخار عليها كتابات تحتوى على أسماء تشمل الملك خفرع ومنكاورع، ولذلك يجب أن نتساءل لماذا لم يعثر على أسماء ملوك آخرين، وخاصة اسم الملك خوفو؟، وقد نقول إن عدم العثور على اسم آخر ملوك الأسرة الرابعة هو نقل شيبسسكاف القصر وهرمه إلى سقارة. وعثر أيضًا فى هذه المنطقة على الدهاليز والمنازل التى تم تشييدها من الطمى وعاش فيها العمال وعثر على بقايا غرف إلى الناحية الجنوبية. وعثر على بقايا غرف إلى الناحية الجنوبية، ويتميز كل مبنى بأنه مفتوح. وقد عثر على جدار منخفض قسم أجزاء المبانى الشمالية إلى جزأين متساويين من حيث الطول. وهناك احتمال أن هذه الأكواخ أو الحجرات تم تسقيفها، وكانت مزودة بصف من الأعمدة، وقد قام البناؤون بوضع أعمدة خشبية على قواعد حجرية تمثل الرواق، وقد شيدت قواعد الأعمدة من الحجر الجيرى الخام وبلاطات من البازلت، وفى أحيان أخرى صنعت من الصلصال وقد عثر على مبنى أو دهليز واحد توجد به قاعدتان لعمود مربع شيد من الطوب. ووجدت أيضًا صفوف الأعمدة يوجد بها سقف خفيف ربما من الحصير وأن سمك جدران هذا الكوخ يصل إلى ١.٥٧ متر تكفى لحمل دورين أو ثلاثة، وقد وصل عدد ما كشف عنه حتى الآن لثمانية مبان أو دهاليز تضم ردهات صغيرة مسقوفة وغرف رئيسية وممرًا صغيرًا أو غرفة نوم داخلية، وعثر على عدد كبير من الفخار وقوالب صناعة الخبز ملقاة داخل الغرف الخلفية. ويبدو أيضا أن الأدوات النحاسية التى عثر عليها قد تكون استخدمت للأعمال المنزلية، وعثر أيضًا عليها داخل الغرف الخلفية. ودليل آخر على صنع الأصباغ والألوان منها الأحمر والأصفر ومطارق من حجر الدولميت والدولوريت. وقامت البعثة بعمل إعادة تقييم لأحد المنازل بالموقع وبتجميع كل العظام الحيوانية، وقام الراحل ريتشارد ريدنج بدراسة العظام، واستطاع أن يؤكد وجود خمسة أنواع من الحيوانات كانت موجودة فى ذلك الوقتأ وهى الخنازير- الخراف- الماعز- الماشية- والطيور والأسماك. واستطاع أن يدرس آلافا من قطع العظام، وعرفنا أن الماشية التى تمت ذبحها داخل الموقع كانت ذكورًا ولم يبلغ عمرها سنتين. وقد أجاب هذا الكشف عن العديد من الأسئلة الخاصة بإعاشة العمال. ولكن أهم شىء هو أن الفكرة التى كانت لدينا أن العمال بناة الأهرام كانوا يعيشون على البصل والثوم والعيش والجعة كانت خاطئة. لقد أكد ريدنج دراسة أن المصريين القدماء كانوا يذبحون ١٣ عجلًا يوميًا، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الماعز وصلت إلى ١٥ يوميًا، بالإضافة إلى الأسماك والخنازير. لذلك نستطيع أن نقول إن العمال بناة الأهرام كانوا يأكلون اللحوم يوميًا من خلال رعاية رؤساء العائلات الموجودة فى الصعيد والدلتا. وأيضا نقول إن كل ما عثر عليه من دهاليز كانت عبارة عن مبان أو عبارة عن معسكرات للعمال ومن دراسة هذه الدهاليز يمكن أن نقول إن كل جانب من هذه الدهاليز كان يتسع لنوم شخص واحد وينام وجسمه ممدد، وفى كل دهليز ينام من ٤٠ إلى ٥٠ عاملًا. أما مجموعة الدهاليز فكان يمكن أن تأوى ٢٠٠٠ عامل، ولذلك فإن هذه الدهاليز كانت بغرض استعمالها كمعسكر للعمال الذين يتناوبون العمل فى بناء الهرم. مما يؤكد أن بناء الهرم كان مشروعًا قوميًا.
هذه لمحات نعرضها لأول مرة عن بناء الأهرام ولايزال للموضوع بقية.